السفير د. عبدالله الأشعل
اللافت للنظر أن الدول التي ورد ذكرها في تقرير المخابرات الأمريكية حول تعذيب معتقلي “جوانتانامو” لم تعلق على التقرير الذي ورد ذكرها صراحة فيه، بل ولم يشِر إعلامها إليه رغم الضجة العالمية التي أثيرت حوله، ووصف الرئيس الأمريكي لهذه الممارسات بأنها تلحق العار بالولايات المتحدة.
يجب أن نقرر ابتداء بأن ورود أسماء هذه الدول الحليفة لواشنطن لا يقصد به فضحها، أو تنكّر واشنطن لهذه الدول وتضحياتها في أنها عذّبت نيابة عنها، فلم يكن التعذيب في مصر مجرد خدمة تقدم في إطار التعاون المشبوه بين نظم فاشية وبين أجهزة الأمن الأمريكية، ولكن الراجح أن اتفاقاً باطلاً قد تم بينهما، وتم اختيار مصر بسبب موقفها من الإسلاميين الذين شجعتهم على التوجه إلى أفغانستان، فلما تغير الموقف الأمريكي منهم صاروا فجأة خطراً على الأمن المصري، وأصبحوا هدفاً لكل من مصر وواشنطن.
ثم إن التعذيب صناعة برعت فيها مصر منذ عام 1952م، وأصبح خدمة عظيمة تقدمها للأحبة خارج السياق الرسمي للعلاقات بين الأصدقاء، فالتعذيب أصلاً كان من سمات عصر “مبارك” الذي ثار الشعب كله عليه، فلما ذاع صيته مع وزير داخليته ومساعديه الذين برأهم جميعاً القضاء المصري العريق مما نسب إليهم! وهو قليل وسطحي، وحسب التهم في قرار الإحالة والأدلة المتاحة، اختارت واشنطن مصر للتعذيب بالوكالة؛ لأن واشنطن دولة شفافة ولديها ما تخشاه من شرف بخلاف نظام “مبارك” الذي مارس كل شيء في العلن، ماداموا لا يرجون لله وقاراً، ولا يظنون أنهم جميعاً ملاقوه!
مصر إذن برعت في تعذيب أبنائها، وذاع صيتها في هذا الباب، بعد أن كانت في العصر الملكي تصدِّر العلم والثقافة رغم الاحتلال، فأصبح التعذيب بالنيابة أحد قرابين النظام لواشنطن حتى تسكت عليه، علماً بأن واشنطن مارست نفس الأسلوب مع “صدام حسين”، فلما حانت ساعته كانت أدلة الإدانة هي ذاتها أوراق اعتماده لديها، وغيره كثيرون.
ولاشك أن الدول المحترمة تفخر بما تقدمه في مجالات تقدم البشرية، ويظل هذا التقرير أهم إنجازات النظام الفاسد الذي لن يبرئه التاريخ كما يتحمل أمام الله وزر كل هذه الأعمال الشائنة التي لا تليق بمصر، خاصة حين يتولاها من لا يعرف قدرها، وللأسف الشديد؛ إن الحكم الأجنبي الذي امتد لمعظم فترات التاريخ المصري منذ القرن الرابع قبل الميلاد هم الذين حفظوا لها قدرها، ولا أزال مندهشاً من رؤية الأجنبي لمصر ورؤية الحكم الوطني لها، ولذلك فإن الوطنية عندي هي مدى قدرة المصري وكفاءته وإنجازه في تقدم مصر والمصريين تحت أي شكل من أشكال النظم السياسية، فلم أعد مصرّاً على نظام بعينه، والمهم أن يكون قادراً على اصطياد الفئران.
على المستوى العام، شاركت مصر واشنطن في المظالم ضد الإسلاميين الذين وقعوا فريسة غدرهما، فتولدت “داعش” من تراب هذه المظالم، وهي ليست منظمة، ولكنه شعور بالقهر والغدر والوحشية، يعمل خارج أي قانون، ويلتحف بالدين مادام الدين يستخدمه القاهر ضد فرائسه، ولم يستخدم في سجلات الدول استخداماً يتفق مع صحيح الدين تماماً مثل “إسرائيل”، ولعل اختيار فلسطين لزرع “إسرائيل” كان مدروساً خاصة من زاوية البيئة التي نزلت فيها الرسالات ولكنها تستغل هذه الرسالات في ارتكاب المظالم.
لقد نشر تقرير الكونجرس حول مغازي المخابرات الأمريكية التي دافع رئيسها عنها بأنها ضرورية ولها ما يبررها في ضوء تهديد المجتمع الأمريكي، فما المصلحة التي تحققها لمصر وليس لنظامها الفاسد سوى بيع مصر وأعراض الناس تقرباً لواشنطن التي لا أفرق بشأنها بين الإدارة والكونجرس وأجهزة الأمن إلا قليلاً.
هذا التقرير يطرح الكثير من الأسئلة بشأن مصر وواشنطن.. السؤال الأول: ألا يعد هذا التقرير دليلاً دامغاً على تورط نظام “مبارك” في جرائم التعذيب والاحتراف فيه، واعتباره صناعة تهدى للدول الأخرى المشفقة على سمعتها واعتبارها؟ وهل تعاد محاكمة “مبارك” على الأقل بهذه التهمة بدلاً من المحاكمة المضحكة التي تصم مصر ومؤسساتها وتصم نظام “مبارك” وحوارييه؟ لقد قدم “مبارك” لمحاكمته على قتل المتظاهرين؛ أي التصدي للثورة السلمية الشعبية، وليس مؤامرة أمريكية بلهاء، فلا يجوز لواشنطن أن تخون “مبارك” وتنقلب عليه، كما أن هذه التهمة إهانة لمصر والمصريين الذين يفخرون بثورتهم إلى يوم الدين، بل إنني أطالب بأن يكون 25 يناير عيداً قومياً لمصر؛ لأنه الثورة الحقيقية الشعبية، أما 23 يوليو فقد اعتبرت عيداً قومياً عندما كان نظامها قائماً، ولماذا لا تتعدد الأعياد كما هي الحال في الدول الأخرى؟
إن جريمة التعذيب من جرائم النظام العام الدولي التي تدخل في اختصاص المحكمة الجنائية الدولية والقضاء المصري، فما بالنا بجريمة التعذيب بالإنابة التي لا تخطئها أركان الجريمة المزدوجة والتي تورط الدولة من رأسها حتى أصغر مسؤول تورط بحكم منصبه بما فيها وزير الخارجية في هذه الفضيحة، وإذا كان القضاء المصري قد برأ “مبارك”، فللتاريخ قول آخر في الجميع، ولكن ما قول القضاء في الإنابة في التعذيب؟ وهل تم أيضاً بغير علم “مبارك”.
إن الشعب المصري ليس بهذه البلاهة، ويعلم منذ الفراعنة أن المسؤول الوحيد هو رأس الدولة، فإذا لم يكن يعلم فيجب أن يحاكم بتهمة التقصير في أداء وظيفته، وطبيعي أن الرئيس مسؤول عن أعمال تابعيه، وهو مبدأ استقر في القانون المصري منذ عهد الفلاح المصري الفصيح الذي أكل حماره من حقول الآلهة فتم حبسه، ولا أظن أن فقهاء الدين النجباء عندنا ستصل بهم النجابة إلى حد تفسير الآية الكريمة (وَلاَ تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الإسراء:15)، بأن الحمار هو المسؤول وليس صاحبه، فالتهمة ثابتة وأركانها مؤكدة وهي الركن المادي في فعل التعذيب المتكرر على سبيل الاحتراف، فأصبح المعذبون خبراء يستعان بهم في الدول المحتاجة إلى خدماتهم، ودليلها هو شريك مصر في الجريمة وهي واشنطن.
وإذا كان التقرير قد لطخ سمعة واشنطن في مجال حقوق الإنسان، فهو صفحة واحدة من صفحات سوداء لواشنطن والغرب ضد العرب والمسلمين بل والعالم الثالث كله، ولكني عجبت ممن علقوا على التقرير بأن واشنطن لا يحق لها أن تحاسب مصر أو غيرها على انتهاكات حقوق الإنسان، وكأن التقرير شهادة بإطلاق يد الدول في التعذيب دون توبيخ واشنطن، والطريف أن الضحايا مسلمون وعرب، وفي حالة مصر مصريون، فهل يريد هؤلاء المتنطعون أن تسكت واشنطن على جرائم التعذيب مادامت قد ارتكبت الجرم نفسه؟ لقد وظفت واشنطن مصر ولم ترتكب هي الجريمة، فهل السيد والمتضررون هم العبيد، أفيقوا يا سادة قبل أن تحل بكم نقمة الله التي تحل بالقوم الذين لا يتناهون عن المنكر، ولا يناصحون ويتحاضون على الفضائل.
الطريف أيضاً أن واشنطن التي وظفت الحكومة المصرية في جريمة التعذيب قد غسلت يدها هي وتكفلت معونتها لمصر بتكاليف هذه الخدمة، ولا ضرر في ذلك عند دافع الضرائب الأمريكي مادام المعذب والمعذب ليسا من المواطنين الأمريكيين، وبقي لنا فريق محترف من المصريين بحكم مناصبهم وحقد من الشعب على أجهزته الأمنية التي يجب أن تحميه من المنحرفين لا أن تهدر كرامته وهو في حوزتها.
لقد طالبت الأمم المتحدة بتقديم المسؤولين إلى المحاكمة، ونرجو أن يحاكم أولاً وكلاء التعذيب محاكمة دولية، الذين لاشك يفخرون أن خدماتهم المتميزة كانت سبباً في توثيق العلاقات المصرية الأمريكية.
لقد أرادت واشنطن أن تبرئ ضميرها بالكشف عن الجرائم، فهل يعتذر أصحابنا على الأقل عن جرائمهم التي لن يستطيعوا تدمير أدلتها أو إنكارها كما فعلوا في جرائم ثلاثة عقود ضد الشعب المصري؟
إن انتهاك المواطن للقانون جريمة، ولكن انتهاك السلطات للقانون جريمة مركبة والإجرام لصالح الغير جريمة ثالثة.