كثيراً ما يُربط بين نهضة الأمم وقيام حضاراتها وبين قوة انتماء شعوبها للقضية وحملها للأمانة، سواء كان هذا الانتماء لفكرة أو لرمز أو لمؤسسة أو لجماعة أو لوطن، من هنا نال صدق الانتماء وعلاماته ومظاهر ضعفه وعلاجها اهتماماً كبيراً ومساحات واسعة عند المختص
محمد الطائي
كثيراً ما يُربط بين نهضة الأمم وقيام حضاراتها وبين قوة انتماء شعوبها للقضية وحملها للأمانة، سواء كان هذا الانتماء لفكرة أو لرمز أو لمؤسسة أو لجماعة أو لوطن، من هنا نال صدق الانتماء وعلاماته ومظاهر ضعفه وعلاجها اهتماماً كبيراً ومساحات واسعة عند المختصين في علوم الاجتماع وعلم النفس، وخاصة علم النفس الإكلينيكي (السريري) الذي يدمج بين علوم النظريات وبين المعرفة السريرية في فهم الضغوط والاضطرابات، ومن ثم محاولة التخفيف من حدتها والتغلب عليها بالفحص والتشخيص والعلاج، وبما يحقق التقدم الشخصي للفرد وتعزيز قيم السعادة لديه.
ولم يكن الانتماء في يوم من الأيام حاجة ملموسة تُقاس بالوسائل المادية، فهو مجموعة من المشاعر والأحاسيس والعواطف التي يمكننا بالوسائل الحديثة قياس أثرها لندرك وجودها وفعلها.
أنواع الانتماء:
هناك من يقسم الانتماء إلى ديني ووطني، وهو بذلك يغفل عن أنواع أخرى لا تجد لها مكاناً بين القسمين، ومنهم من يقسمه حسب درجته إلى احترام أو تأييد أو دعم أو انتساب وصولاً إلى التضحية، وهو تقسيم لم يتجاوز علّة التقسيم الأول، من هنا نرى أن التصنيف الأقرب للصواب هو تقسيم الانتماء إلى نوعين:
الأول: الانتماء الفطري، ومثال عليه الانتماء للإنسانية.
الثاني: الانتماء المكتسب، ويمكن تقسيمه إلى ثلاثة أقسام:
أ- انتماء يتغذى بالتربية، ومثال عليه الانتماء للعائلة والدين والوطن.
ب- انتماء يتشكل على مجموعة من المبادئ والقيم والأفكار، ومثال عليه الانتماء لتوجه فكري أو تيار سياسي.
جـ- انتماء يتم تكوينه أو إيجاده، ومثال عليه الانتماء لفريق عمل.
معنى الانتماء:
لا يخرج الانتماء عن ثلاثة معانٍ، هي:
1- الانتساب، يقال: عُرف بانتمائه لقبيلة كذا، أي انتسابه لها.
2- الارتفاع والصعود، يقال: انتمى الطير أي ارتفع، وانتمى إلى الجبل أي صَعد.
3- الزيادة، يقال: انتمى فلان إلى فلان، إذا ارتفع إليه وازداد.
بينما أرى أن الانتماء هو ليس مجرد الانتساب، وإنما الانتساب حباً لشيء ما، والانتماء هو ليس مجرد الارتقاء وإنما الارتقاء سعادة بما يلبي احتياجات النفس الفطرية والمشروعة، والانتماء هو ليس مجرد زيادة وإنما زيادة في الأمن والسعادة والثقة.
وفي علم النفس يقصد بالانتماء: تلك العلاقة المنطقيَّة بين الفرد والصِّنف الذي يدخل فيما صدقه، وبذلك يكون اللاَّ انتماء: هو شعور المرء بأنَّه مُبعَد عن البيئة التي ينتمي إليها.
ويبقى الانتماء هو: ذلك الشعور الداخلي الذي يبعث على العمل بإخلاص وحماس وولاء من أجل الارتقاء والنهضة بما انتمى له الفرد والدفاع عنه مع استشعار الفضل عليه في السابق واللاحق.
الانتماء وتلبية الحاجات:
يعد البروفسور “وليام كلاسر”، المتخصص في علم النفس الكلينيكي، وصاحب نظرية العلاج بالواقع، وصاحب الكتاب المشهور في التدريب القيادي وبناء الشخصية “تولّ مسؤولية حياتك” والذي تمت ترجمته للعربية، يعد واحداً من أفضل من تناول مفهوم الانتماء بعلمية وتطبيقية؛ حيث يرى “أن الحاجة إلى الانتماء هي من الاحتياجات الأساسية التي تدفع بالإنسان للنشاط باتجاه معين يجعل من المجموعة التي يرغب بالانتماء إليها راضية عنه”، وجاء ذلك على خلفية ما يراه “كلاسر” من أن الفرد يولد وهو مجهز بخمس حاجات رئيسة، هي:
1- الحاجات الفسيولوجية (الطعام والشراب وحاجات الوجود والامتداد).
2- الحاجة للانتماء والمحبة.
3- الحاجة لتقدير القوة والبأس.
4- الحاجة للحرية والمشاركة في القرار.
5- الحاجة للراحة النفسية والوجود في بيئة تقبله وتقدره.
من هنا، نرى الدافع الحقيقي للانتماء، حيث شعور وإحساس الفرد بتلبية احتياجاته الذاتية والشعور بالأمان والسعادة والعدل والمساواة، واستعداده بعد ذلك للتضحية من أجل الفكرة الجديدة أو المكون الجديد، وتغيير أولوياته الشخصية وتأخيرها أمام متطلبات الفريق الجماعي الجديد.
فيبقى الفرد بشكل أو بآخر باحثاً عن فكرة أو قيمة أو من يمثلهما؛ لأنه الوضع الطبيعي له والذي يشعر فيه أن لحياته فائدة ولوجوده قيمة ولوضعه حماية من الضياع والاغتراب، وعلى هذا فطر الإنسان.
وتكمن أهمية الانتماء في اعتباره صمام أمان لديمومة العلاقات الجماعية المشتركة، وهو الذي يجعل الفرد في ميل دائم للعمل من أجل نجاح المهمة التي انتمى إليها، فينطلق في عمله وتفكيره وفرحه بالإنجاز وحرصه على التعاون والتكامل لتحقيق هدفه.
ماذا لو صدق الانتماء؟
لو تحقق الانتماء الصادق في نفوس الناس في مجتمعاتهم، أو العاملين في مؤسساتهم، أو الأفراد في أسرهم، لشهدت كل مؤسسة من هذه المؤسسات نهضة مستمرة في عملها، وسعادة متنامية بين أفرادها، ويمكن أن نذكر على سبيل المثال لا الحصر بعض علامات صدق الانتماء في المؤسسة:
1- صفاء القلوب وتوحد التوجهات.
2 إنجاز التكاليف بشكل أكثر إخلاصاً وإبداعاً.
3- تنافس في البذل والعطاء.
4- زيادة الثقة المتبادلة.
5- التشخيص المبكر للأخطاء.
6- عدم الاكتراث للمناصب والعناوين.
7- الثبات في العمل حتى آخر المشوار.
مظاهر ضعف الانتماء:
لو فرضنا أن الأسرة أو الجماعة أو حتى المجتمع مؤسسة قد تختلف في تكوينها ولكنها وحدة اجتماعية تشترك في خواصها الأساسية؛ فإن من أبرز مظاهر ضعف الانتماء التي يجب الانتباه إليها والإسراع في معالجتها ومعالجة مسبباتها؛ هي:
1- عدم الاهتمام بأنشطة ومواعيد تلك المؤسسة.
2- التهرب عن تنفيذ المهام.
3- التركيز على السلبيات وكثرة النقد.
4- التقليل من شأن المؤسسة وعدم الاعتراف بمنجزاتها.
5- الترويج للآراء الشاذة.
6- التثبيط من خلال مقارنات غير واقعية بمؤسسات أخرى.
أسباب ضعف الانتماء:
ولعل من أهم أسباب ضعف الانتماء ما يلي:
1- ضعف القناعة بالمؤسسة.
2- ضعف البرامج التي تنمي روح الانتماء في المؤسسة.
3- طبيعة الفرد ونزعته للظهور والأنانية.
4- ضعف التربية السابقة.
5- الصحبة والبيئة.
6- ضعف ثقافة الانتماء للمؤسسة.
7- أسلوب تعامل القيادة مع الأفراد.
8- التصدر قبل التأهل.
9- عدم مراعاة الفروق الفردية.
10- خلل في المسؤولين عن التربية.
11- كثرة التشكيك والتحرز.
12- الشعور بالظلم والمحاباة.
العـلاج:
وأخيراً، فمن من أهم وسائل علاج ضعف الانتماء لدى الأفراد والعاملين:
1- التدرج في الترقية والتولية وضمن معايير ثابتة.
2- الاستماع للأفراد والاهتمام بمقترحاتهم ومشاعرهم.
3- مراعاة الفروق الفردية في المهمات ورعاية الموهوبين.
4- ربط الأفراد بأهداف المؤسسة.
5- المتابعة المستمرة.
6- الحرص على إرساء قيم العدالة والمساواة.
7- جلسات المصارحة بين القيادات والأفراد.
وفي الختام نقول: إن الحديث عن الانتماء واسع وطويل، ولكنه عنوان يستحق منا التوقف والتفكر، خاصة ونحن نرى الأمم والشعوب والجماعات والمؤسسات بل وحتى الأسـر، تتهاوى وهي تفقد انتماءها من بعد ضعف وهوان، وما نسمعه من اعتراضات وأصوات داخل مؤسساتنا اليوم يجب علينا أن نعيرها أسماعنا، ونصدق في معالجاتها، ونتذكر من باب العبرة أن صراخ الطفل الصغير وإن بدا لنا مزعجاً، فإنه محاولة صادقة منه لنيل جرعته المُستحقة من الانتباه ممن يريد الانتماء إليهم، لبيان حاجة لم نشبعها له بصورة سليمة، والحليم، تكفيه الإشارة!