يعتقد كثير من الناس أن الفرح والابتهاج لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، وأن الإسلام يخاصم الدنيا، ويتخذ موقفاً سلبياً منها، ومما فيها من زينة ومتاع وبهجة، ويحسبون أن التقوى – المطلوبة في الإسلام – إنما هي بلبس الرث من الثياب، والتبطل من الأعمال، وتأدي
يعتقد كثير من الناس أن الفرح والابتهاج لا علاقة له بالإسلام والمسلمين، وأن الإسلام يخاصم الدنيا، ويتخذ موقفاً سلبياً منها، ومما فيها من زينة ومتاع وبهجة، ويحسبون أن التقوى – المطلوبة في الإسلام – إنما هي بلبس الرث من الثياب، والتبطل من الأعمال، وتأديب النفس لحد القسوة.
ذلك أن من عقائد الإسلام عقيدة الدار الآخرة تمثل مركزية في عقل المسلم بما فيها من حساب، وعدل، وجزاء، وجنة، ودار خلود، ونعيم مقيم، وانتصاف للمظلومين والمحرومين، كما أن الإسلام يحث الإنسان على الجهاد طوال الوقت، سواء اتصل ذلك الجهاد بالنفس وبحملها على المكاره ومنعها مما تحب، أو بالأعداء ودفعهم عن الظلم والفساد في الأرض، فهذه كلها تعزز تلك الفكرة.
والواقع أنهم تعرضوا لسوء الفهم في تاريخ الفكر الإسلاميّ؛ لأن الإسلام كما هو يمد بصر المسلم إلى الآخرة، ويجعل قلبه معلقاً بها، فهو أيضاً يشتبك مع الدنيا، ويتفاعل معها إبداعاً واستمتاعاً في توازن ووسطية تمثل معلماً بارزاً من معالم الإسلام تجاه القضايا المتعددة.
فإذا ألقينا النظر على كتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم وننظر في النصوص؛ يتجلى علينا أن بعضها واردة بشأن ذم الدنيا، والزهد فيها، والتخفف عنها، والأخرى تدعو للتمتع بالطيبات، وعدم نسيان نصيب الإنسان منها، وتستنكر تحريم “زينة الله”، منها على سبيل المثال قوله تعالى: (قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ {32}) (الأعراف)، وقوله تعالى: (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ {77}) (القصص)، وقد وردت هذه الآية الكريمة في سياق قصة “قارون” مع قومه حينما خرج عليهم في زينته مختالاً فرحاً؛ فقال له قومه: (لَا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ {76}) (القصص)؛ أي لا تبطر بما أنت فيه من الأموال، قال ابن عباس رضي الله عنهما: يعني المرحين(1).
الاستطلاع على معنى الفرح:
الفرح لغة: مصدر من فرح يفرح يدل على خلاف الحزن، واصطلاحاً: انفتاح القلب بما يتلذذ به، وقيل: هو”لذة القلب لنيل المشتهى”، وهو أعلى أنواع نعيم القلب ولذته وبهجته، والفرح والسرور نعيمه، والهم والحزن عذابه، والفرح بالشّيء فوق الرّضا به، فإنّ الرّضا طمأنينة وسكون وانشراح، والفرح لذّة وبهجة وسرور(2).
أنواع الفرح:
من الفرح ما هو مذموم، ومنه ما هو محمود، وقد ورد في القرآن والسُّنة على نوعين كليهما، والفرح المحمود هو الفرح بتحقيق طاعة الله أو بالحصول على نعمة من نعمه التي لا تحصى، قال تعالى: (قُلْ بِفَضْلِ اللّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ {58}) (يونس)، وقد جاءت في حال الشهداء حين يطالعون ما أعد الله لهم من جزاء ونعيم: (فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ) (آل عمران:170)، أما الفرح المذموم فهو الفرح بمتاع الحياة الدنيا، والاغترار به، ونسيان صاحب الفضل والإحسان، قال تعالى عن هؤلاء المنشغلين بما آتاهم الله من نعم: (وَإِذَا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِهَا وَإِن تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِمَا قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذَا هُمْ يَقْنَطُونَ {36}) (الروم)، وقال: (اللّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشَاءُ وَيَقَدِرُ وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ مَتَاعٌ {26}) (الرعد)، فاتضح أن الفرح ليس له حكم بذاته، إنما يتحدد حكمه بما يرتبط به من أسباب، وما يترتب عليه من نتائج.
نماذج من حياة النبي صلى الله عليه وسلم:
إذ إن مد البصر إلى حياة النبي صلى الله عليه وسلم نجد أنه كان حريصاً على أن يملأ حياته بالبهجة والفرح والاستبشار، إلى جانب كونها حافلة بالغزوات والجهاد، حتى كانت نموذجاً عملياً لحسن التعامل مع الطيات، ومع ما يدخل السعادة على النفس وعلى الآخرين.
كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب التفاؤل والتيامن، ويكره التشاؤم والتطير، ويدعو إلى الرفق في كل شيءٍ؛ “ما خير رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أمرين إلا أخذ أيسرهما، ما لم يكن إثماً؛ فإن كان إثماً، كان أبعد الناس منه”(3)، ويحث على إسعاد الآخرين، ويجعل ذلك قربة يتقرب بها الإنسان لربه الكريم، ويجيب عندما سئل عن أحب الأعمال: “سرور تدخله على مسلم”(4)، بل ربما كان صلى الله عليه وسلم يمزح مع أصحابه؛ لإيناس المصاحبين، ولإدخال السرور على المخاطبين، ولكن لا يقول إلا الحق كما قال صلى الله عليه وسلم: “إني لأمزح، ولا أقول إلا حقاً”(5)، ويحذر من العنف والقسوة، ويقول للأعرابي الذي استنكر تقبيل الصبيان: “أو أملك لك أن نزع الله من قلبك الرحمة”(6)، ويعلن لأصحابه في غير خجل: “حبّب إليَّ من الدنيا النساء، والطيب، وجعل قرة عيني في الصلاة(7).
فكل من هذه الأقوال والأفعال – وغيرها كثير – يحيطنا علماً بأنه صلى الله عليه وسلم يحظى بنعم الله عز وجل حظاً وافراً، ويدعو الآخرين إليه أيضاً، وليست هذه الأقوال والأفعال متعارضة مع جهاده أو مع تبتّله وعبوديّته، بل الواقع أنه صلى الله عليه وسلم كان يعطي لكل وقت حقه، ولكل حال حقه.
إذن البهجة زاد للنفس الطيبة، وهي من طيب الحياة التي ارتضاه الله لأهل الإيمان، لا تصرفهم عن العبادة، ولا تنسيهم الآخرة، وتربطهم مع الكون.
من فوائد الفرح:
1- الفرح بنعم الله يستتبع الشكر ومزيد الفضل.
2- الفرح بآلاء الله علامة الإيمان به، وكونه المصدر الحقيقيّ له.
3- الفرح بفضل الله يشيع المودّة بين المؤمنين.
4- الفرح بالابتلاء دليل القرب من الله والرّضا بقضائه.
5- إن الله يفرح بتوبة عبده وهذا باعث إلى المسارعة بها وإقلاع العبد عن المعصية.
6- فرح المرء باستقامة الآخرين يشيع الحبّ في المجتمع. ويجلب القرب من الله تعالى.
7- الفرح بفضل الله ثمرة الرّضا من الله على العبد(8).
الختام:
فيحسن للإنسان أن يتعامل مع نفسه في أطوارها وسياقاتها المتنوعة تعاملاً رفيقاً، ويجعل توازنها وعافيتها من أهم المقاصد والغايات؛ لأن ذلك سبيلها لحسن القيام بالتكليف والعيش الطيب الذي هو مرضيّ عند الله لعباده، وأن يقبل على الطيبات وعلى “زينة الله” يشبع منها رغبات نفسه بلا إسراف ومغالاة، متذكراً أنه في كل حالاته ينبغي أن يكون عبداً لله لا تستثني حالة من تلك، سواء كان في محراب المسجد أو في ساحات الحياة؛ لأن المؤمن ينشد سعادة الدنيا والآخرة كليهما، فهو في لحظات السعادة لا يغتر بالفرح، وهو عند نقصانها مع تقلب أحوال العيش من الصابرين الشاكرين، وبالجملة التيسير والرفق هو منهج الإسلام، والفرح والابتهاج في حياة الإنسان هو مرضاة الرحمن ما لم يبلغ العصيان.
الهوامش:
(1) تفسير ابن كثير، ج6، ص228، ط. دار الكتب العلمية، بيروت.
(2) نضرة النعيم في مكارم أخلاق الرسول الكريم ج7 ص 93 – 3094 لعدد من المختصين إشراف الشيخ صالح بن عبدالله إمام وخطيب الحرم المكي، ط. دار الوسيلة للنشر والتوزيع، جدة.
(3) مسند أحمد، رقم الحديث: 26262.
(4) المعجم الكبير للطبراني، رقم الحديث: 13646.
(5) المعجم الأوسط للطبراني، رقم الحديث: 7322.
(6) شعب الإيمان للبيهقي، رقم الحديث: 10502.
(7) مسند أحمد، رقم الحديث: 14037.
(8) نضرة النعيم المذكور، ج7، ص3106.