في ليلة حالكة السواد، من امتداد يوم من تاريخ البشرية الطويل، كانت تلك الليلة تأذن بنهاية عصر وبداية عصر جديد، نهاية عصر الطغيان الفرعوني، وبدأ عصر الحرية والحق بموسى عليه السلام ومن معه.
كان الجمعان يخوضان معركة الحق والباطل، وكعادة الطغيان يتحزم بقوته وجبروته ومنعته وغروره ويتبع موسى وقومه مستصغراً مما مع موسى من تأييد إلهي وحق متين.
وعندما تراءت الفئتان واقترب الجمعان، قال قوم موسى (إِنَّا لَمُدْرَكُونَ {61}) (الشعراء)، وبلغة الواثق والمتيقن صدع بها موسى: (كَلَّا إِنَّ مَعِيَ رَبِّي سَيَهْدِينِ {62}) (الشعراء).
قال تعالى: (فَأَوْحَيْنَا إِلَى مُوسَى أَنِ اضْرِب بِّعَصَاكَ الْبَحْرَ فَانفَلَقَ فَكَانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ {63}) (الشعراء).
ثم بغشاوة وظلمة الكفر والغرور تبع فرعون وجيشه مسارالبحر معتقداً أنه سيدرك موسى.
(وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَجُنُودُهُ بَغْياً وَعَدْواً) (يونس:90).
وعندها انطبق البحر بأمر من الله علي جيش فرعون، وجعلهم الله عبرة لمن اعتبر، ودرساً تاريخياً لزوال الطغيان وغروره (حَتَّى إِذَا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قَالَ آمَنتُ أَنَّهُ لا إِلِـهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَأَنَاْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ {90} آلآنَ وَقَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَكُنتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ {91} فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَإِنَّ كَثِيراً مِّنَ النَّاسِ عَنْ آيَاتِنَا لَغَافِلُونَ {92})(يونس).
إن صراع الطغيان والحق قصة قديمة تتكرر، وإن هذه القصة تكررت في كتاب الله مرات ومرات؛ تثبيتاً لقلب الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه، ونبراساً للمؤمنين الذين يواجهون الطغيان في كل زمان ومكان، وهي سُنة الله في المكذبين من قبلهم، وسُنة الله التي مضت في الأولين، وهي ماضية في الآخرين؛ عذاب وهلاك للطغيان وأتباعه، ونجاة وخلاص للعدل والحق والإيمان.
هذه القصة العظيمة كيف استقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم جعلها سُنة لأمته باقية إلى يوم الدين؟
فقد كان اليهود يحتفلون بهذا اليوم، ورآهم الرسول صلى الله عليه وسلم يصومون ذلك اليوم في المدينة، وكان – عليه الصلاة والسلام – يصومه قبل ذلك، أخرج البخاري عن ابن عباس رضي الله عنه، قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة، فرأى اليهود تصوم يوم عاشوراء فقال: “ما هذا؟”، قالوا: هذا يوم صالح، هذا يوم نجَّى الله بني إسرائيل من عدوهم فصامه موسى – زاد مسلم في روايته: «شكراً لله – تعالى – فنحن نصومه»، وللبخاري في رواية أبي بشر: «ونحن نصومه تعظيماً له» – قال صلى الله عليه وسلم: “فأنا أحق بموسى منكم، فصامه، وأمر بصيامه”، في رواية مسلم: “هذا يوم عظيم أنجى الله فيه موسى وقومه، وغرق فرعون وقومه”.
إن هذا اليوم العاشر من المحرم هو يوم خير للبشرية جمعاء، ويوم سنة وفضل للمسلمين، وأنبياء الله سلسلة متتالية من فصول الدين والإسلام، ونحن أحق بكل الأنبياء، فرسولنا صلى الله عليه وسلم صلى بهم جميعاً ليلة الإسراء.
إن الاحتفال بهذا اليوم أراده الرسول صلى الله عليه وسلم ليكون عبادة شكراً لزوال الطغيان وانتصار الإيمان.
إن هذه الرواية القرآنية والعمل النبوي يجب أن يكون له خير وأثر واعلان في حياتنا من كل عام، فقد كنت سعيداً عندما رأيت بعض صغار أبنائنا بهذه المناسبة يقرؤون قصة نجاة موسى وقومه من طغيان فرعون في هذا اليوم، وكم كانت سعادتي وأنا أرى مجموعة من الأطفال وهم يشاهدون فيلم «موسى النبي» ليحتفلوا في هذا اليوم شكراً لله على إنقاذ نبي من أنبياء الله وقومه من طغيان فرعون وبطشه وجبروته.
إن ترسيخ هذا المفهوم في نفوس الصغار والكبار والحاكم والمحكوم والأمة جميعاً يُنشئ أمة حرة أبية عزيزة تقاوم المحتل والمستعمر والطغيان أينما وجد بروح واثقة بنصر الله وعزته، وأن يكون يوم فرح وسرور ومصابرة وفق الرواية القرآنية والفعل النبوي، وكم تحتاج دول المسلمين وحكوماتهم ومن علماء المسلمين وخطبائهم ودعاتهم من وسائل الإعلام أن يسخروا في هذا اليوم جهودهم التوعوية والإعلامية ليروا القصة الحقيقية ل«البانوراما» عاشوراء استناداً للرواية القرآنية والسُّنة النبوية المحمدية، ويدعوا أجيال المسلمين بكل فئاتهم أن يحيطوا علماً وفهماً بطبيعة يوم عاشوراء وموقعه عند الأمة، والمسلمون أولى بالأنبياء وتاريخهم الطويل من النضال والتحرر من الطغيان، والمسلمون كذلك أولى بالنبي واهل بيته وصحبه الكرام.