ونحن في موسم الجوع العظيم، الذي يقضي على جماعة من أبناء المسلمين، في عدة بقاع من هذه الأرض، نذكر منها غزة وبورما ودير الزور ومضايا والزبداني وعموم مناطق الغوطة، وديالى والمقدادية، جوع وحصار يندى له جبين الإنسانية، وفي زمن كثر فيه الكلام عن حقوق الإنسان، منظمات تعمل، ومؤسسات ينفق عليها الملايين، صراخ وعويل، ملفات وتحقيقات، إعلام يطبل، وأفلام تزمر، ونشرات وكتب، ولكن الثمرة، الجوع يزداد، ويحكم الحصار، ويكثر الموتى جوعاً، وينفرد الطاغوت بالبطولات، وهذا من أغرب غريب هذه الموازين المختلة، وتعدد المكاييل المنحلة، فلا نامت أعين الجبناء.
وفي حديث كهذا، لا يمكن أن ننسى، الحصار والجوع، لأهلنا الفلسطينيين في مخيم اليرموك، حيث فرض الحصار، وأطبق طوق الجريمة على أبناء فلسطين الأحرار، الذين أبوا أن يكونوا لعبة بيد الجلاد، على ضحيته، فضربوا أروع مثال بالوفاء لهذا الشعب السوري الغيور الأبي، فكانت ضريبة ذلك، أن فعل بهم ما فعل، وقضى جماعات منهم جوعاً، فإذا هي مدرسة شر متكررة، وانتبهوا جيداً، هذا ما يفعل بالشعب الفلسطيني البطل، على أيدي مدعي المقاومة والممانعة، والذين يتشدقون بفلسطين، وبحقوق الشعب الفلسطيني! يا جماعة كفى ضحكاً على الدقون، وكفوا عن هرائكم هذا، فقد سقطت ورقة التوت، وانكشف المستور للقاصي والداني.
ومدرسة الإجرام هذه، هي نفسها، التي حاصرت طرابلس الشام، في يوم من الأيام، لأنها أبت أن تذل، وطبقت عليها قانون الشيطان، في التجويع للتركيع، ولكنهم صبروا وثبتوا، رغم أنهم أكلوا القطط والكلاب، في بعض الأحيان، وكانت النهاية في فرج من الله تعالى.
ويسوقنا هذا إلى تذكر من قضى جوعاً بسجن تدمر سيئ الذكر، في ثمانينيات القرن الماضي، حيث أدخل إليه خيرة أبناء الشعب السوري، من الأحرار المثقفين، والنبلاء والعلماء، والصالحين من عباد الله، ليفعل بهذه المجموعات من الأبرار، ما لا يصدقه عقل، ولا يستوعبه ضمير إنسان، واقرأ إن شئت كتاب “تدمر شاهد ومشهود”، أو كتاب “القوقعة” لعل بعض الصورة تصل إليك.
وهذا يدفعنا نحو تحليل ظاهرة الجوع، ومعرفة أسبابها، ولما نبحث عن هذا الأمر في كتب السياسة والاجتماع والجغرافيا والتاريخ، يذكرون منها الجفاف والحروب، وبعد المسافات، وضعف الموارد، وغير ذلك، أما أن يكون الجوع لأسباب سياسية تتعلق بالاستبداد لم أرَ من يذكر هذا إلا في عصرنا الحاضر، أما أن يكون سبب الجوع سجون الطغاة، فهذا قل من يذكره، أما أن يكون الجوع بسبب التآمر على شعب، هذا غاب عن قاموس أهل البحوث والدراسات، وعودة إلى سجن تدمر، لتعرف حقيقة ما كان يجري، بصورة من صور مشاهده المؤلمة الكثيرة، وهذه واحدة منها، لم يكتفوا بالتعذيب ليل نهار، ولم يقتصروا على الحرب النفسية، ولم يحصروا عطاءهم على فتات الطعام الذي كانوا يقدمونه لهم، ولم يحصروا حسرة المسجونين المظلومين بأن أحداً لم يرهم، من قريب أو صديق، أب أو أم أو زوجة، أو… أو..، بل مرت فترة عليهم أن جاعوا حتى قضى قسم منهم جوعاً، سجن وجوع، وهنا تبرز ثنائيات فلسفة الجوع، حصار وجوع، سجن وجوع، دم وجوع، خوف وجوع، هم وجوع، موت وجوع، قصف وجوع، ظلام وجوع، رعب وجوع، قهر وجوع، هنيئاً لصناع السينما، صارت بين أيديهم مادة دسمة، لأحسن الأفلام، فنرجو ألا يشكوا بعد اليوم من أزمة النصوص.
وفي سجن تدمر يتحدثون عن سوء التغذية، فيا أسفاه على خبره، وما نتج عنه من أمراض وكوارث ومصائب، ليس مرض السل إلاً واحداً منها، غصة، ألم، حسرة، ضيق، تجتمع في النفس مع الصبر، وترديد الحوقلة والحسبلة، لنقول: في أي زمن نحن؟ وفي أي عالم نعيش؟ ألا لعنة الله على الظالمين؛ “دخلت امرأة النار في هرة حبستها، فلا هي أطعمتها، ولا هي تركتها تأكل من خشاش الأرض”.