تعيش المنطقة العربية والبيئة الإقليمية أزمة الصراع والاحتراب والتدافع والتداخلات الإقليمية والدولية، عدا الصراعات الداخلية بين الكتل الاجتماعية فيما بينها، وتنذر تلك بحرب طائفية وعنصرية وقومية، منذ ظهورها بقوة عند سقوط “صدام” في العراق الذي أعاد إحياء الصراع القومي بين الكرد والعرب والأتراك والفرس من جديد.. ومن المشهد يبدو أن القضية الكردية فتحت في المنطقة مشهداً جديداً لزيادة عوامل التشتت والضعف والصراع باستغلالها كقضية أمن قومي من جهة الدول المركزية في إيران والعراق وتركيا وسورية، ومن جهة استغلها النظام الدولي كمعبر للضغوطات على تلك الدول لتحقيق مصالح كبرى على حساب استقرار الكرد واستقرار دولهم المركزية التي يعيشون فيها.
ذاكرة التاريخ
يشهد التاريخ أصالة الكرد وجهودهم العظيمة في توطيد الخلافة العباسية وتصديهم للصليبيين في المنطقة، وتوحيد مصر والشام على يد الدولة الأيوبية، وحماية بيت المقدس ونصرته، ويكفي لهذا الشعب فخراً أنه صدر للعالم الإسلامي نور الدين زنكي، وصلاح الدين الأيوبي، والإمام أحمد بن تيمية، والشيخ بديع الزمان النورسي، كما أن اعتناقهم للمذهب الشافعي السُّني وضعهم في بؤرة الصراعات الطائفية في المنطقة بين الدولة العثمانية، وكانوا من مناصريها ضد الدولة الصفوية، وذلك بعد تقسيم كردستان بعد معركة “جالديران” عام 1514م.
وساهمت الحروب بين الدولتين في التأثير المباشر على الحقوق المركزية للكرد كاتفاقية «أماسيا» (1555م)، التي حطمت حلم الكرد في دولة مستقلة، وتتابعت الاتفاقيات كاتفاقيتي أرضروم (1823 و1847م)، وطهران (1911 و1913م) التي حددت الحدود بين إيران والدولة العثمانية.
ودخلت منذ ذلك القضية الكردية في أتون المصالح المتعارضة والحروب المتدافعة بين الدولة العثمانية وبريطانيا والدول الأوروبية وحتى الولايات المتحدة.
بدءاً من الحرب العالمية الأولى (1914م)، واتفاقية “سايكس بيكو” (1916م) حيث أصبحت كردستان تحت السيطرة التركية بعد معاهدة الصلح عام 1919م في باريس، واقتسمت مخلفات الدولة العثمانية، كما فشل ممثلو الأكراد في الحصول على حقوقهم بالاستقلال وحتى الحكم الذاتي، وضاع أملهم في معاهدة “سيفر”1920م بعد قدوم “كمال أتاتورك”، وبعد مؤتمر لندن 1921م، ومعاهدة لوزان 1923م.
وعملت بريطانيا على إلحاق جنوب إقليم كردستان بالعراق، ومع القضاء على ثورة الشيخ سعيد بيران في مارس 1925م على يد “أتاتورك” فقَدَ الكرد حلم دولتهم وحقوقهم، ومنها بدأ التوجه للسلاح والثورات منذ عام 1931م بقيادة البرزاني الأب، وفشلت ثورته وقيام الاتحاد الوطني لكردستان بقيادة جلال طالباني عام 1975م، وفي خضم هذا الحراك انبثق حزب العمال الكردستاني PKK كمنظمة شيوعية تركية مقاتلة في نوفمبر 1978م، وعملياته عام 1984م ضد الجيش التركي، وقد أتت هذه الحرب على 40 ألف شخص، وقد تم اعتقال زعيم هذا الحزب “عبدالله أوجلان” في فبراير 1999م، واستأنف الحزب العمل العسكري عام 2004م، وتوقف فترات ثم عاد بعد فشل المفاوضات السياسية التي قادها حزب العدالة والتنمية عام 2013م.
المتغيرات الجديدة
منذ اندلاع الثورة السورية قام النظام السوري بتسليم المناطق الكردية لحزب الاتحاد الديمقراطي المسلح، وشكَّل هذا الحزب خطراً على الأمن القومي التركي باحتلاله الشريط المحاذي للحدود التركية اقتراباً من حلب، وقد زاد ذلك من تعقد المشهد الكردي والدول المركزية.
الوضع الراهن
لقد تحول الكرد عبر العقود الماضية وإلى اليوم إلى كتلة ديمجرافية مسلحة في جغرافية سياسية هائلة العدد (25 مليوناً)، وإمكانات ومصادر غنية بالنفط والمياه والمعادن، بالإضافة إلى وحدة المصير المشترك.
لكن هذه الكتلة البشرية في نزاع مع الكتل الديمجرافية لدولهم المركزية في إيران والعراق وتركيا وسورية، ويشكل الكرد في إيران قلقاً وضغطاً على الإيرانيين لقوة علاقتهم بقرنائهم في كردستان العراق، كما يشكل كردستان العراق قلقاً للدولة المركزية وخصوصاً تطوير علاقاتها مع تركيا، في حين أن أكراد تركيا في حرب مع النظام السياسي الجديد لحزب العدالة والتنمية، والذي لم يستطع إلى الآن احتواء المشكلة الكردية بالحل السياسي وعاد للحل العسكري، ويشعر الأتراك في هذه اللحظة الراهنة بالخطر الذي يشكله أكراد سورية على أمنهم القومي، وأن نجاح الأكراد في تجميع نطاقهم الجغرافي في إطار دولة واحدة سيسبب ضغطاً للدولة التركية، وفرصة تاريخية لتقسيم تركيا؛ حيث يشكل الأكراد فيها ما يقدر بأكثر من 14 مليون إنسان.
المأزق الجيوستراتيجي
لهذا فإن كلا الطرفين يعيشان مأزقاً تاريخياً بسبب الرؤى الجيوبوليتيكية السياسية والاقتصادية لهذه الأطراف، فالدول المركزية في المنطقة لا تريد أن تعطي الكرد حكماً ذاتياً واسعاً؛ خشية فتح شهيتهم للاستقلال، وهذا سيقلل من قوة الدولة المركزية، ويساهم في ضعفها، كما يساهم في نمو الاضطراب القومي، بالإضافة إلى ما يحدث الآن من نفوذ دولي في المناطق الكردية لروسيا والولايات المتحدة و “إسرائيل” بشكل خاص، والدول الأوروبية بشكل عام، بحيث يهدد الأمن القومي لهذه الدول.
وأما مأزق الكرد فإن التناقضات بين رؤى المكونات السياسية والعسكرية حول طبيعة الدولة الكردية المنشودة وقدرتها على العيش الذاتي في إطار القوميات الأكبر عدداً وقوة الدولة المركزية بما يعطي هذه الدول الحق في حرب لا هوادة فيها لسحق الدويلة الجديدة أو قطع الإمدادات عنها، لذلك فإن كل الأطراف في مأزق سياسي للأسباب التالية:
– استمرار الظلم الاجتماعي والسياسي والثقافي الذي تمارسه الدول المركزية على الكرد في المنطقة، وعدم وضع الحلول والرؤى لاعتبار الكرد مواطنين من الدرجة الأولى، وهذا ما فعله “أتاتورك” في الدستور التركي الذي تحاول حكومة العدالة والتنمية لتعديله لصالح هذه الرؤية وتواجه صعوبات داخلية من أحزاب المعارضة القومية.
– أن الدول الكبرى ومصالحها عبر التاريخ في القرن العشرين تموضعت حول استقلال الجغرافيا الكردية كجغرافية ضغط على الدول المركزية الناشئة في حينها وإلى الآن.
– تعارض المصالح بين الدول الكبرى كالولايات المتحدة وروسيا واستخدام الورقة الكردية في الصراعات فيما بينها في إيران والعراق وتركيا وسورية.
إن الحل الأمثل فيما نراه لهذا المأزق ربما فيما يلي:
1- الاعتراف بالحقوق السياسية والاجتماعية والثقافية للكرد، والاعتذار لهم عن المظالم التي انتُهكت فيها حقوقهم طوال عهود الدكتاتوريات الإيرانية والعراقية والتركية والسورية.
2- إدماج المواطنين الكرد كمواطنين من الدرجة الأولى في وطنهم عبر تعديلات دستورية جذرية.
3- إعطاؤهم حق إنشاء الأحزاب السياسية والمنافسة في الانتخابات في إطار ديمجرافيتهم وجغرافيتهم، وفي إطار القانون الانتخابي الاتحادي.
4- منح جغرافيتهم السياسية الحكم الذاتي وحق إدارتها وفق نظام الإدارة المحلية.
5- حق إنشاء القوى الأمنية الداخلية لحماية وتنفيذ الحكم المحلي وإدارته.
6- وضع خطة تنموية طويلة المدى لتطوير المناطق الكردية وانتشال مواطنيها من الفقر والحاجة.
7- الالتزام بالاتحادية الفيدرالية من قبل الكرد، وأداء مستلزمات القانون الفيدرالي للدولة.
8- الالتزام بدعم الجيش الوطني الاتحادي في كل بلد، وهو الذي يحمي الديمجرافية الكردية كسائر الوحدات الجغرافية الوطنية في الدول المركزية.
9- عدم التدخل في الصراعات التي تضعف الدولة المركزية، وعدم الانجرار للدعوات والخطط العولمية لاستغلال الجغرافية والديموجرافية الكردية للمصالح الدولية.
إن معالجة العلاقة بين الدولة المركزية في المنطقة العربية والإقليم والكرد هي أولوية مهمة، وإلا فإن الحروب العنصرية والقومية ستكون جسراً لاستمرار الصراع إلى عقود من الزمن تضعف فيها الدول المركزية، وتصبح المناطق الكردية مناطق حروب وانتهاكات ومناطق فاشلة، وعدواً دائماً للأكثرية القومية في المنطقة، وهو أحد العناصر الرئيسة لمنطق التقسيم الدولي الجديد للمنطقة.