لم يرد في القرآن والسُّنة ذكر لهذين الاسمين “هابيل، وقابيل”، ولكنهما متداولان على نطاق واسع في كتب التاريخ والتفسير، وموجودان في الروايات “الإسرائيلية” وكتب أهل الكتاب.
والمهم أصل القصة وعبرتها، ولا يضر اعتماد هذين الاسمين لشهرتهما، ولا يحتاج ذلك إلى أسانيد قوية، خاصة وقد ورد هذا عن ابن عباس، وعبدالله بن عمرو وغيرهما.
وفي القرآن سرد القصة في خمس آيات من سورة “المائدة”، وجاء السياق متصلاً بقصص أهل الكتاب مما جعل بعضهم يظن أن القصة وقعت في بني إسرائيل، والحق أنها كانت لولدين مباشرين من أبناء آدم، ولذلك جاء في الصحيحين: “لَا تُقْتَلُ نَفْسٌ ظُلْمًا, إِلَّا كَانَ عَلَى ابْنِ آدَمَ الْأَوَّلِ كِفْلٌ مِنْ دَمِهَا, لِأَنَّهُ أَوَّلُ مَنْ سَنَّ الْقَتْلَ” (أخرجه البخاري ومسلم).
إذاً فهي أول جريمة قتل تقع في الأرض بعد خلافة آدم.
معظم الروايات تتحدث عن خلاف على الزواج من البنت الأجمل، وهذا معنى ظل ساري المفعول في بني آدم كما قال ابن السمّاك: “لولا ثلاث لم يقع حيف ولم يرفع سيف: وجه أصبح من وجه، وسلك أنعم من سلك، ولقمة أسوغ من لقمة”.
فالصراع على الجمال والثياب والطعام؛ سر كثير من الحروب التي يوظّف فيها من لا يدرك مغزاها.
والقرآن لم يعنَ بتفصيل ذلك؛ لأن المقصد هو العبرة بتعظيم الدم وحرمته وحفظ حقوق “الأخوة الإنسانية الآدمية” القائمة بين البشر كلهم، إلا ما يقتضيه العدل وتأذن به الشريعة.
كما لم يعنَ القرآن بتفصيل القربان، وكان هابيل صاحب غنم فقرَّب أفضل ما لديه بطيب نفس، وقابيل صاحب زرع فقرَّب شر ما لديه وبغير طيب نفس.
أما التَّقبُّل، ويعني قبول الله للقربان فورد ما يدل على أن علامته أن تأتي نار من السماء فتحرقه، وجاء في القرآن قول اليهود: (الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّ اللّهَ عَهِدَ إِلَيْنَا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّىَ يَأْتِيَنَا بِقُرْبَانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ) (آل عمران:183).
وفي صحيح مسلم في قصة يوشع بن نون: أنهم جمعوا الغنائم فأقبلت النار فلم تأكلها، فأعادوا إليها الذهب المغلول فأقبلت النار فأكلتها.
حسد قابيل لأخيه أنموذج مصغَّر لما وقع من الشيطان مع آدم، شعوره بأفضليته أثار غيرته، فطفق يهدده (لَأَقْتُلَنَّكَ) (المائدة:27)، وكان رد هابيل: إن الله الذي جلبنا إلى الأرض سيثأر لي إن قتلتني.
الهمُّ بالقتل يحدث، والتسامي عن الانتقام يحدث أيضاً، فهابيل كان الأقوى، ولكنه كان الأتقى، ولذا لم تُحدِّثه نفسه بأن يبادر بالقتل، ولا خطرت في باله فكرة: “تغد بالحجاج قبل أن يتعشى بك”.
مبدأ هابيل كان سلمياً: (إِنِّي أُرِيدُ أَن تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ) (المائدة:29)، كان عارفاً بأن القتل نار وعار وظلم: (فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاء الظَّالِمِينَ {29}) (المائدة).
كان حريصاً على حماية نفسه، حذراً من غدر أخيه، ولا يغني حذر من قدر، لقد وجده قابيل نائماً على سفح جبل فرماه بحجر فقتله.
وقع لقابيل بعض التردد والإحجام فهو يهم بجريمة لم يرها قط، ولكنه يدرك أنها يمكن أن تقع، وبمقدوره أن يفعلها، تهيَّبَ من ذلك ولكن نفسه الأمارة بالسوء “طَوَّعَت” له قتل أخيه.
التعبير بالأخوة تذكير بالمشترك الإنساني بين البشر من بني آدم، وتعظيم لحرمته وحقه، وتحذير فوري من التجاوز والعدوان عليه.
يسجل القرآن ندم قابيل بعد أن رأى أخاه جثة هامدة، وتعبير القرآن: (فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ {31}) (المائدة)؛ يدل على شدة الندم وتمكّنه، فهو أبلغ مما لو قال: فأصبح نادماً!
وهذا يشبه قول الله تعالى لآدم وحواء: (وَلاَ تَقْرَبَا هَـذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الْظَّالِمِينَ {35}) (البقرة).
ولعل هذا الندم لم يكن ناشئاً من خوف الآخرة ولا قصد به التوبة الصادقة ولذا لم ينفعه، والتوبة تنفع في الآخرة من كل ذنب حتى من الشرك والقتل فما دونهما.
عبَّر عن ندمه بقوله: (يَا وَيْلَتَا) (المائدة:31)، وهي إنما تقال عند الوقوع في هلاك أو تعاسة أو حسرة، وتذكَّر فوراً أن المقتول أخوه: (فَأُوَارِيَ سَوْءةَ أَخِي) (المائدة:31).
الأخطاء مهما عظمت لا تلغي الأخوة، وفي سياق مشابه بشأن القصاص يقول تعالى: (فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْءٌ فَاتِّبَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَأَدَاء إِلَيْهِ بِإِحْسَانٍ) (البقرة:178).
الذنب مهما عظم لا يعني الكفر ولا يخرج صاحبه من الدائرة الواسعة.
تقديم قابيل للقربان دليل على وجود أصل الإيمان، ولا دليل على أنه كان منافقاً.
جاء عمران بن طلحة بن عبيدالله إلى علي رضي الله عنه، فرحَّب به علي وقال: إني لأرجو أن يجعلني الله وأباك (يعني طلحة الذي حاربه) والزبير ممن قال فيهم: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ {47}) (الحجر).
يمر القرآن على مشهد القتل سريعاً دون إبطاء ولا تفصيل ولا تطويل: (فَقَتَلَهُ) (المائدة:30)، فمن الجدير عدم التركيز في السرد على لحظة الضعف بتفصيل قد يفضي إلى المحاكاة أو الإغراء.
العبرة هي الخسارة الناجمة عن القتل: خسر أخاه، وأسرته، وإنسانيته، وسعادته، وآخرته، خسر تاريخه وصار مثالاً يُتلى إلى يوم القيامة، ونموذجاً يحتذى في الشر والقطيعة.
العلاقة بين الإخوة في الأسرة الواحدة ذكوراً وإناثاً يجب أن تكون قائمة على الحب والاحتضان، والانسجام والإيثار، والاحترام المتبادل والتفاهم، ومراعاة حق الوالدين، والعفو والتسامح في حال حدوث مشكلات وحلها بالصبر والحلم والتنازل وتجاوز الحظوظ النفسية، والتسامي عن الأنانية.
“حضن الوالدين” يسعنا جميعاً، وليس علينا أن نكثر من الشكوى: أيّنا يعتنون به ويحبونه أكثر، مأدبة الطعام التي نتحلّق حولها، المنزل الذي احتفظ بذكريات الطفولة، الجينات، المعبر الذي سلكناه جميعاً (الرحم)، المصير.
حالات العصبية أو الحساسية أو التوتر يجب أن تعالج بـ(وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ {134}) (آل عمران).
العلاقة بين المتنافسين في الأجواء الصحية هي تسابق بالخيرات، وتنافس في الطاعات دون تباغض أو تحاسد أو استسلام لنزعات النفوس المريضة، فرص الحياة تسعنا جميعاً فلماذا نتدافع؟ لماذا نعتقد أن نجاحنا هو في تقويض نجاح الآخرين؟
قابيل وهابيل أنموذجان بشريان.. أيهما تحب أن تكون؟