في البداية، أنوّه عن خلل مطبعي في المقال السابق بسقوط الهامش والذي فيه مصدر المعلومة الواردة؛ وهو كتاب فضيلة الشيخ عبدالله النوري رحمه الله “حكايات من الكويت” من منشورات ذات السلاسل، 1985م، ص 93 – 95.
كما أستمر في المقالات القادمة في سرد مواقف تتمحور حول النية الحسنة للتاجر الكويتي.
التاجر عبدالله عبدالعزيز العثمان مثال رائع للبيع بالنية وحسن الطوية:
إن من أهم ما تميزت به الشريعة الإسلامية الغراء أنها قد رتبت الأجر والثواب على النية التي يعقدها العبد لفعل الخير، وهذا من رحمة الله سبحانه وتعالى على هذه الأمة المباركة، ومن جميل كرم الله عليها وفضله عليها.
فالمسلم مثاب على نيته الطيبة حتى وإن لم يستطع إنفاذها، فما أجمل أن يثاب المسلم على عمل لم يفعله، ولكن مجرد قصده فعل الخيرات يترتب عليه الأجر العظيم، والحديث الأصل في هذا موضوع النية هو قول النبي صلى الله عليه وسلم: “إنما الأعمال بالنيات، وإنما لكل امرئ ما نوى..” (حديث متفق عليه)، وهو أصل من أصول الدين الإسلامي الحنيف، فالأعمال تحتاج إلى نيات حسنة صادقة، وأن تكون خالصة لوجه الله الكريم، وأن تكون الغاية منها الفوز برضا الخالق سبحانه وتعالى.
وقد ضرب أهل الكويت الكرام أمثلة رائعة في البيع بالنية وحسن الطوية، وهذا ما سوف نستعرضه في ذكر هذه القصة الواقعية وقد حدثت للنوخذة عبدالله عبدالعزيز العثمان، التي وردت في كتاب “نواخذة السفر الشراعي في الكويت”، د. يعقوب يوسف الحجي، ص427، على لسان ابنه عيسى عبدالله العثمان، التي رواها للدكتور يعقوب يوسف جاسم الحجي قائلاً:
كنت مع والدي في بومباي نحاول بيع ما لدينا من تمر على التجار، ولما عرض علينا الدلال السعر لم يعجب الوالد، فذهبنا إلى المسجد لصلاة العشاء، وحين خرجنا من المسجد أقبل علينا دلال آخر يعرض سعراً للتمر أعلى مما عرضه الدلال الأول، ولكني فوجئت بالوالد يرفض السعر الأخير هذا ويخبر الدلال أنه باعه على دلال آخر سبقه في عرض السعر، فلما قلت للوالد: إن سعر الدلال الثاني هذا أعلى من سعر الدلال الأول، قال لي: “اسمع يا ولدي، إحنا ناس نروح ونجي في هالبحر، ونخاطر بأنفسنا وحلالنا، ورأسمالنا الحقيقي هو النية السليمة، لقد قررت بيع التمر على الدلال الأول “عبدالشكور” حين كنت بالمسجد لصلاة العشاء، ولن أغير نيتي حتى لو حصلت على سعر أعلى”.
يا لها من عبارة مؤثرة “لن أغيّر نيتي”! فالتاجر عبدالله العثمان قد عقد العزم على البيع للدلال الأول بالسعر الذي سام به التمر، وهذه النية لم يطلع عليها أحد، ولم يكن السعر ليعجبه أساساً، وجاء الدلال الثاني بسعر أفضل من سعر الأول، وكان بوسعه أن يوافق ويفوز بفارق السعر، دون أن يعلم أحد بنيته أو بما دار بخاطره أو بعقده هذه النية، ولكنها الفطرة السليمة، والخوف من الله سبحانه وتعالى، وورعه وتقواه هي التي دفعته لرفض السعر الأعلى والالتزام بالسعر القديم، على الرغم من أنه لم يتفق مع الدلال الأول على البيع، ولم يقبض ثمناً ولم يوافق على البيع أصلاً.
وهكذا ضرب لنا التاجر عبدالله عبدالعزيز العثمان رحمه الله مثالاً رائعاً يحتذى به تحقيقاً لمعنى البيع بالنية وحسن الطوية، وللحقيقة هذه ليست القصة الوحيدة في هذا الباب، فقد ذكرنا أكثر من قصة لغير واحد من آبائنا وأجدادنا أهل الكويت الكرام، الذين باعوا بالنية وتمتعوا بحسن الطوية، وآثروا سلامة النفس، وحب الخير للناس على المصلحة الشخصية، وهؤلاء التجار الذين باعوا بالنية أصلحوا ما بينهم وبين الله، فأصلح الله ما بينهم وبين الناس، فحسن ذكرهم، وبورك لهم في تجارتهم ونماها الله سبحانه وتعالى لهم جزاءً على إحسانهم وتقواهم ﴿هَلْ جَزَاءُ الإحْسَانِ إِلا الإحْسَانُ﴾ (الرحمن: 60).