إذا كانت الليبرالية تعني الحرية واستقلالية الفرد المطلقة والتمحور حول العقلانية كما يقول فلاسفتها، فإن أمريكا والغرب اختزلوها لأنفسهم وأوطانهم، ومارسوا كل صور الإقصائية والوحشية تجاه العرب والمسلمين، ولو كانوا ليبراليين بالمفهوم الدقيق كما قال مؤسسها الإنجليزي الأول جون لوك، لما تدخلوا في حياة الشعوب وأنظمتها وثقافاتها، والذي يرى أن للفرد الحرية المطلقة في العيش والحريّة والاختيار، والملكية الخاصة، ومن أقواله: “الحرية هي ألا يتعرض المرء للتقييد والعنف من الآخرين”.
فهل ينطبق هذا على الغرب وسياسة شن الحروب وإعلان الكوارث؟! ومن ورائهم الليبراليون العرب، على خطاهم في المصادرة والإلقاء والتركيز على معنى هامشي نفعي كحق المرأة بغية الاستمتاع الذاتي!
وحينما يسِمون بعض الاتجاهات بالتطرف والغُلو، يقعون هم في نفس المستنقع، ولا يَزنون بالقسطاس المستقيم، ويكيلون بعشرة مكاييل، وتبيت ليبراليتهم وحريتهم المزعومة سرابا إثر سراب! فيتطرفون مع خصمهم الدائم بلا هوادة أو عقلانية، وقد يتسامحون مع الجميع إلا التيار الإسلامي المتمدد، والضارب في كل مكان، فهم مع دعاوى العقلانية المفتراة، تضمحل تصوراتهم العقلية في هذا المجال، ومع محاولة الاستقلالية الفردية يتعاطون (الاستئصال المجتمعي) مع المخالف، وهذا من أشنعِ صور الهمجية والتناقضية الداخلية لديهم، ومن صور تطرفهم ومغالاتهم القصدية أيضا ما يلي:
١- محاولة تمييع الشعائر الإسلامية: حتى ننتهي “للإسلام الأمريكاني”، من جراء تغليب الشكل الإرجائي في التدين، وتهوين المحرمات والحدود، أو تسويغها للضرورة العصرانية، وتحقيق المنفعة والاستلذاذ الدنيوي، وهو ما عناه “تقرير راند” الصادر عام ٢٠٠٧م، من الاتجاه إلى بناء “شبكات مسلمة معتدلة” من عَلمانية وليبرالية وإسلامية، حتى تتصدى للتيارات المتطرفة (الجهادية)، وكل ما لا يرتاح لها العالم الغربي، ولو كانت سلمية تهدد الوجود الغربي، أو تضاد عقيدتهم كالحركة السلفية الأصيلة مثلاً وغالب حركات المقاومة!
٢- وسم الاستمساك الشرعي بالتشدد: والتطرف، حتى يُلصق بالإرهاب والدعشنة، بدءاً بالأصول، فمروراً بالواجبات، ثم انتهاء بالسنن والمستحبات، كالثوب واللحية والتربية القرآنية والصلة والآداب ونظائرها!
٣- الحجاب سُنة، بل حرية بل بدعة، فالتشدد في حمل الناس عليه مخالفة وإحداث في الدين وتعكير للإسلام والأجواء، مع تجاهل تام للنصوص القرآنية والآثار النبوية، والتي توجبه بلا تردد أو مسالك ظنية، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاء الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِن جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَن يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُوراً رَّحِيماً {59}) (الأحزاب).
ويعتقدون أن مناصرتهم لقضايا المرأة المختارة، من أقوى معاركهم، وهي كذلك في الحس الإسلامي، لأن اختراق المرأة وتغيير بنيتها الأخلاقية كاف في تدمير المجتمعات والإخلال لهوياتها، قال في الحديث: “ما تركت بعدي فتنة هي أضر على الرجال، من النساء”، ولما لم يرق لبعضهم هذا النص الصحيح الصريح، أشاع عدم نسبته النبوية، للمعنى المتوحش فيه؛ (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً {5}) (الكهف).
٤- تركيع الأكثرية الشعبية: لمهازل صحفيين ضيقي العطن والمساحة والتأثير، ويُهزمون عبر “استفتاءات تويتر” المتكررة، وهذا من أعجب التصرفات، وهم في محاولات مستميتة للسيطرة والاستحواذ، ولو بخطاب استئصالي، وعلى حساب أكثرية جارفة، ويتقمصون في ذلك القميص الشيعي الباغي في السيطرة عبر أقلية متطرفة وبعقلية جافية ومذاهب مباينة، على الأكثرية السُّنية العالمية!
٥- احتكارهم الإعلامي والصحفي: لدرجة منع مشاركة الرأي الشعبي الآخر، فهي قوة “عِندية مركزية” متعنجهة؛ مما أجهض التجربة الإعلامية العربية، وهوّن من دورها، وإبراز جهلة ومنتفعين وجامدين، وسد الحجب أمام كل الطاقات، لاختلاف المشرب والتوجه!
٦- اختصار الملايين الشعبية في شرذمة قليلة منبتة، ثقافياً، ولا فكر ولا عقل!
٧- تفسير ليبراليتهم بالمرأة: والتخندق حول الأنثى وطموحاتها بالشكل الغربي المنفتح، فهم ما أرادوا حق المرأة، وإنما حق الوصول إليها، عبثا وتجارةً واستمتاعا، وممارساتهم الإعلامية والتجارية والثقافية خير دليل على ذلك.
ومحاولة اللعب على نغمات الحرية شعاراتياً نحو: إسقاط الولاية – قيادة السيارة – بدعية الحجاب – كوني حرة -رياضة النساء!
٨- فتح المجال لكل المخالفين: من كفار وملاحدة وبوذيين، لشتى الموضوعات، سوى الإسلاميين من مشايخ ودعاة لهم مكانهم وحضورهم، حنَقاً وبغياً.
9- في الحوار الاضطراري الملجئ: يمارسون الفجور في الخصومة، فيكذبون بلا حسبان، ويفترون بلا حدود، ويشتمون بلا أخلاق، بل الأخلاق ممنوحة للغربي والمحتل والصهيوني والبوذي والهندوسي وغالب الفئات إلا أهل الإسلام، فيجب نبذهم وحصارهم في الأخلاقية الليبرالية، على حد قول القائل:
لا بد أن يُحارَبوا مِثْلَ الجربْ إن شئتَ سل بدراً وسل شيخ العربْ
١٠- تحولهم إلى مِقصلة وحشية حين القضاء العلماني: فيدعون إلى الإبادة والنقمة والإعدامات بلا قانون و بلا رحمة وإنسانية، كانوا يتشدقون بها سابقاً!
١١- عصرنة الإسلام: ودعوى قراءة النص الديني من جديد، وطبعاً يتم ذلك بلا ضوابط أو مختصين شرعيين، وإنما بأهواء متعفنة، وصدور محتقنة، كل هدفها تمييع الإسلام وإخراجه من مضمونه اللدني المنزل من الباري تعالى، قال تعالى: (أَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ أَفَأَنتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً {43}) (الفرقان).
١٢- تضخم تطرفهم من المضاد للشامل: والضيق بكل ما هو إسلامي، فرائض أو واجبات، أو سنن، أو فضائل، مع الإشادة بجل القيم الغربية وتسويقها بأجر وعدمه.
١٣- الاستعداء الداخلي لأتفه الأمور: والتحريض الخارجي والنعت بالإرهاب لمزيد الضغوطات الأجنبية على البلاد وعلى كل شرائع الإسلام.
١٤- التحاكم القانوني والعدلي: حيث المصلحة الغربية والحوادث النازلة عليهم وأتباعهم، وأما الاتجاهات الإسلامية فمحرومة غاية الحرمان، ولسان حالهم تستحق ما ينزل بهم.
١٥- حمل كل الإخفاقات التنموية والفكرية والثقافية على تيار الصحوة والإسلاميين، وشن حملات ممنهجة، بغية إسقاطهم بأي ثمن، برغم أن غالب النافذين من مسلاخهم وأهوائهم، ولكن الله يرد كيدهم في نحورهم، وقد كشفت الوقائع كيف تقاد بعض الخدمات والوزارات بشكل قبَلي متخلف، أو استبدادي، أو شكل نفعي لا يعير المواطن والإنسان أدنى اهتمام، وتراكم بلايا الفساد بشتى أنواعه، والله المستعان.
ومرجع ذلك التطرف الغالي هو بنية الليبرالية الفكرية وعدم انسجامها مع جوهر الإسلام، المحدد بقيود وحدود، وهي تضاد تلكم الحدود، وتشتاق لمزيد الانفتاح الشهواني كما قال تعالى: (وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً {27}) (النساء).
وتطرف بعض التيارات ليس كافياً للغلو والحنق الفكري والاجتماعي العدائي – وإن بدا بعضه – لكن الأصح أن السبب تعاليم الإسلام وقضاياه المبدئية، وقد يدعون الوعي والإصلاح كديدن أرباب النفاق، كما قال المولى تعالى: (وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ {11}) (البقرة)، والله الموفق.
ومضة: الحقيقة المخفية أن الليبرالية العربية مجموعات استئصالية متوحشة، لا علاقة لها بالأسس الليبرالية.
المصدر: “نوافذ”.