وهل في الإسلام مستويات؟
للإجابة عن هذا التساؤل تأمل حديث جبريل عليه السلام الذي يرويه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: “يا محمد، أخبرني عن الإسلام، فقال له: الإسلام أن تشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، وتقيم الصلاة وتؤتي الزكاة، وتصوم رمضان، وتحج البيت إن استطعت إليه سبيلاً، قال: صدقت، فعجبنا له يسأله ويصدقه، قال: أخبرني عن الإيمان، قال: أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر، وتؤمن بالقدر خيره وشره، قال: صدقت، قال: فأخبرني عن الإحسان، قال: أن تعبد الله كأنك تراه”. (رواه مسلم).
وقوله عليه الصلاة والسلام: “يوم من إمام عادل أفضل من عبادة ستين سنة”.
وتأمل الحديث القدسي: “إِنَّ اللَّهَ قَالَ: مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُ عَلَيْهِ وَمَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ”.
من هنا فإن الالتزام بالإسلام مستويات ودرجات، وقد جاء في التعبير القرآني “أصحاب اليمين، والسابقون السابقون”، “السابقون الأولون”.
ويمكن أن يكون ثلاثة مستويات:
المستوى الأول: الإسلام الأصل:
وهو فردي خاص للمسلم وهو ما يكون به المسلم مسلماً.
أخرج البخاري ومسلم عن أبي هريرة: أن أعرابيًا جاء إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، دُلَّنِي على عمل إذا عَمِلْتُهُ دخلتُ الجنَّةَ، قال: “تعبد الله لا تشركُ به شيئًا، وتقيمُ الصلاة المكتوبة، وتؤتي الزكاة المفروضة، وتصوم رمضان”، قال: والذي نفسي بيده لا أَزِيدُ على هذا شيئًا أبدًا ولا أَنْقُصُ منه، فلما ولَّى، قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من سرَّه أن ينظر إلى رجل من أهل الجنة فلينظر إلى هذا”.
ويمكن أن نسميه مستوى الالتزام بالمعلوم من الدين بالضرورة الذي لا يصح لمسلم جهله أو عدم الالتزام بمقتضاه.
وهو الأساس لكل فرد مسلم، من توحيد الله تعالى وصلاة وصيام وزكاة وحج استطاع، مع سلامة الباطن، والتحلي بالأخلاق الفاضلة التي جاء بها الإسلام من الرحمة بالناس والتسامح، والعدل والأمانة والصدق والعفاف والاحتشام.. وهذا هو الإسلام العظيم الذي حين تمثله المسلمون تجاراً ورحالة وعلماء ودعاة وناساً عاديين دخل الناس في الإسلام أفواجاً وانتشر الإسلام في العالم.
المستوى الثاني: الإسلام الواجب:
وهو الذي يتمتع به المسلم إضافة للمستوى الأول تجعله يعمل جاهداً ليصبح فيه المجتمع مبنياً على الإسلام وكذلك الأمة والدولة.
وهو ليس ثانوياً أو تكميلياً أو تجميلياً، إنما هو دين ودنيا، فكرة وحركة، وعلم وعمل على أصعدة: الأسرة والمجتمع والدولة والأمة، كما هو رسالة للعالمين كافة.
انظر إلى قيمة الحرية مثلاً: فهي قيمة عليا في الإسلام، وكذلك في مذاهب وأديان ومجتمعات كثيرة غير إسلامية.
في الإسلام تأصيل يرتبط بالتوحيد: فالإنسان ليس عبداً إلاّ لله، وهو حر من كل ما سواه، ثم تتحول لحرية اجتماعية منضبطة بالتعاليم الاجتماعية والأخلاقية، ثم تتحول لحرية سياسية بناء على أنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق.
ولن تجد في المذاهب السياسية ما يحافظ على الحرية كما هي الحال في الإسلام، ولن تجد ما يشبه الحديث القدسي في دلالة الصراحة والصرامة بشأن الحرية: “يا عبادي، إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرماً فلا تظالموا”، ومقولة: “الظلم ظلمات يوم القيامة”، “وأفضل الجهاد كلمة حق عند سلطان جائر”، فالقيم الاجتماعية والسياسية في المجتمعات والأمم مرجعيتها الفكر الإنساني، ولا ضير، لكنها في الإسلام مرجعيتها الأولى هي الإسلام نفسه الذي ينظر إليها بالعقل الواعي والمنهج العلمي المنفتح على عطاءات الإنسانية مهما كانت مصادرها.
المستوى الثالث: الإسلام الكمال:
وهو الذي يمتد به الإسلام ليصل للعالمين.
في العادة يرسي كل مجتمع في البداية هويته ومرجعيته، ثم يفتح الأبواب كلها لحريات الفكر والاجتهاد والاعتقاد والإبداع والتعبير والدعوة والنشر والإعلام وتكوين الجمعيات والأحزاب؛ بحيث تتيح للإسلاميين وغير الإسلاميين، والمسلمين وغير المسلمين، أن يطوروا رؤاهم في مناخ منفتح، وأن يعرض كل فريق رؤاه على الناس، وما يقبل منها يستمر ويتسع حسب درجة قبوله الحر الشفاف، وما لا يقبل منه يتوقف أو يقف عند حدوده بلا إكراه ولا خداع.
هذه المستويات الثلاثة تتضارب عند بعض المسلمين ونحن منهم؛ لأننا لا نجيد الوَصْل بينها، ويكتفي بعضنا بمستوى دون آخر ويحرم غيره من الاختيار أو مستوى الالتزام، مما يكرس حالة الفصل التي وصفها البعض بـ”الفصام النكد”.
لكنَّ في الإسلام شدائد/ عزائم عبدالله بن عمر، ورخص عبد الله ابن عباس، وفيه إن الله يحب أن تُؤتى رخصه كما يجب أنْ تؤتى عزائمه، حسب حال الشخص المكلف وظروف أخرى.
إنّ الإسلام الأصل (الفردي الخاص) وهم المستوى الأول يجب أن يحرسه ويكرسه إسلام واجب وهو المستوى الثاني (جمعي مجتمعي سياسي حضاري)، ويحوطه إسلام تتكامل صورته التطبيقية بالاجتهاد في التفاصيل، والحرص على التكميل وهو المستوى الثالث والأعلى، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.
هذه مستويات تقديرية فقد تكون مستويين أو أربعة أو عشرة أو بدرجات عديدة، ولكن قطعاً هناك مستويات متعددة، وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.