أشاع دونالد ترمب خلال حملته لانتخابات الرئاسة الأمريكية العام الماضي، بأنه لن يتدخّل مباشرة بمسألة الصراع الفلسطيني- “الإسرائيلي”، وبأنه لن يميل إلى عمل صفقة سلام، ولكنه بدّل رأيه بعد فوزه، باعتبار إشاعته تهدف إلى جلب الصوت اليهودي والأمريكي المحافظ.
ففي 22 نوفمبر 2016م، أعلن بأنه يودّ أن تنجح إدارته في التوصل إلى اتفاق سلام تاريخي في الشرق الأوسط، وبأنه يحب أن يكون هو الشخص الذي يحقق السلام، باعتباره سيكون إنجازاً عظيماً.
على هذا الأساس، فقد عزم أن يكون تدخله من خلال خطّة غير مسبوقة، ومختلفة تماماً عن كل الخطط التي تم تداولها في السابق، والتي تم طرحها من قِبل كل من بيل كلنتون، وجورج بوش الأب والابن، باعتبارها لن تقوم على أساس قرارات الشرعية الدولية، ولا بالرؤية الذي تستند إلى حل الدولتين تماماً كما كان شائعاً، بل أخذ على عاتقه مسألة تحقيقها كمشروع سلام اشتُهر بـ”صفقة القرن”.
في كل مناسبة، وضَّح ترمب خطة عمله، والتي تبدأ بالتغلب على التحديات التي يواجها طرفي النزاع الفلسطيني و”الإسرائيلي”، وبالتخلص من أزمة التجارب القديمة، بمعنى أنها ستقوم بتصحيح الخطاب السياسي، وتطهيره من المواقف المتشددة، وعلى قاعدة أن الولايات المتحدة، تريد إعادة ترتيب إقليمي شامل، وليست صفقة بين “الإسرائيليين” والفلسطينيين بمفردهما.
وإمعاناً في تنفيذ الصفقة، كانت هناك جولات أمريكية داخل دول المنطقة (سريّة وعلنية)، حققها كل من المبعوث الخاص للمفاوضات الدولية جيسون جرينبلات، ومستشار ترمب، جاريد كوشنير، التي تهدف إلى الحصول على مواقف عربية مؤيّدة لها، ومُشارِكة فيها في الوقت نفسه، وسواء كان بطريق الإغراءات المكثّفة، أو بطريق الترهيب والتخويف.
وفيما كان بدا حرص ترمب على وضع يده بشأن تلك الصفقة، بغض النظر عن موقف حركة “حماس” الرافض لها منذ البداية، فقد كان ترمب مثيراً للإعجاب وجديراً بالثناء، بالنسبة للرئيس الفلسطيني محمود عباس بوجهٍ خاص، على أن إعجابه به كان سابقاً لأوانه، بعد أن شكّلت الصفقة مصدر قلق بالنسبة له، وخاصة بعدما بدت التكهنات تشير إلى أنها منحازة كثيراً إلى “إسرائيل”، وبقدرٍ يفوق كل التوقعات.
ولذلك، فقد واجه عباس مشكلة، ربّما لم يمرّ بمثلها من قبل، خاصة وأن دولاً عربية نافذة، التي تم وصفها “إسرائيليّاً” بأنها باعت الفلسطينيين وقضيّتهم بثمنٍ بخس، سارعت إلى اعتناق الصفقة، باعتبارها “صفقة العصر”، حيث بدأت بتمرير ضغوطاتها عليه، وبشكلٍ لافت، من أجل القبول بها وكيفما كانت، مُعللة بأن الصفقة هي فرصة العمر التي لا يجب تفويتها بأي حال، حتى وإن كانت مجحفة بعض الشيء على أن جملة المنافع الإقليمية المتوخّاة ستسد عوارها.
تقترح الخطة إقامة دولة فلسطينية على حدود تدريجية، وليس على حدود عام 1967م مباشرةً، وتشمل قطاع غزة، ومنطقة “A” من أراضي الضفة الغربية، التي تسيطر عليها السلطة الفلسطينية، على أن تتوسع أكثر فأكثر، خلال مراحل لاحقة، وفي إطار اتفاقات محددة، ويتم تأجيل مستقبل القدس، والبند الخاص بعودة اللاجئين الفلسطينيين، وبالتوازي ستحصل السلطة الفلسطينية على مساعدات مالية سخيّة.
نتنياهو وسط هذه الجلبة بدا أكثر هدوءاً، وأفضل حالاً من عباس، حيث بقي ساكتاً طوال الوقت؛ بما يعني السكوت علامة الرضا، باعتبار أن الصفقة، وكما أوضح لوزرائه، مُهمّة، وتحافظ على شروطه، وأهمها التي تعتمد على سلامة الأمن “الإسرائيلي”، بما في ذلك البقاء في مناطق الضفة الغربية، وعلى امتداد غور الأردن، ومن ناحيةٍ أخرى، أنه لا يريد التخاصم مع ترمب، لاسيّما وأنه شعر حتى ما قبل الحديث عن تلك الصفقة “بكثيرٍ من التحسن” بعد فقدانه الرئيس الأسبق باراك أوباما باعتباره كان لا يفقه شيئاً، لا بالنسبة لـ”إسرائيل” اليهودية، ولا لمتطلباتها الأمنية، فضلاً عن أنه أسود ومن جذور إسلامية أيضاً.
وبالعودة إلى ترمب، ففي الوقت الذي تحظى الصفقة بتغطية إعلامية “إسرائيلية” واسعة، فربّما الكل يستطيع التخمين بأن وضعه إزاءها لا يحسده ولن يحسده أحد، إذ وجد نفسه أمام اختبار حقيقي باعتبار جوهره جاء من أقرباء، وهو إمّا قبولها وهو أمر مُر، وإمّا رفضها وهو أمرٌ أشد مرارة، فهل سيتم القبول بها كجزء من دعوة ترمب إلى “التعايش الإقليمي المشترك”؟ أم هل سيقوم برفضها كما حصل في الماضي لكونها تمثل لديه “قتلاً للقضية ووأداً لها”؟