– العلمانية باتت طائفية والداعون لها أصبحوا طائفة تحب الاستبداد
– من يمتلك البديل هو من سينضم له الناس وهو الأقوى
– الفلاح جمع بين علوم الدنيا والدين ففهم أفضل من كبار العلمانيين
– الإسلاميون وصلوا للحكم ولم يحكموا والدولة كالقلعة حبستهم
توقع المفكر الإسلامي الكبير المستشار طارق البشري انحسار موجات “الإسلاموفوبيا” في الغرب ونجاح الاعتدال الإسلامي في تقديم صورة إيجابية عن الإسلام المفترى عليه، في ظل الخلط بينه وبين العنف والإرهاب في العالم وفي منطقة الشرق الأوسط، مؤكداً أهمية عدم الاغترار بالضغط الإعلامي الذي يبرز صعود المد العلماني تحت وطأة الهجوم على الحركات الإسلامية، وإسلامية المعرفة، خاصة أنه لا يتخطى البعد الإعلامي الإعلاني، بحسب وصفه.
جاء ذلك في رده على سؤال لـ”المجتمع” في ندوة “إسلامية المعرفة” التي نظمها مركز الدراسات المعرفية مع المعهد العالمي للفكر الإسلامي بالقاهرة، مساء الثلاثاء، التي تحدث فيها المستشار طارق البشري عن العلمانية وإسلامية المعرفة، وتطرق إلى بعض الأوضاع الراهنة والأبعاد التاريخية لها، فيما أدار الندوة د. نادية مصطفى، أستاذ العلاقات الدولية المتفرغ بكلية الاقتصاد والعلوم السياسية بجامعة القاهرة.
الأوضاع الراهنة
وقال المستشار طارق البشري: لا أرى مستقبلاً لـ”الإسلاموفوبيا”، وأتصور أن العلمانية في خفوت مهما كانت الأبواق الإعلامية التي تثير حالة غير حقيقة بصعودها، والسؤال الأهم الآن هو: هل هذه العلمانية استجابت لتطلعات الناس؟ العالم كله في انتظار البديل، وعلينا أن نقدم مشروعاً بديلاً للناس قائماً على الحياة الحرة، ومن يقم بذلك يفز.
وحول تجربة الإسلاميين بعد “الربيع العربي”، أضاف المستشار البشري أن الإسلاميين وصلوا إلى الحكم، لكنهم لم يحكموا، ولم يكن يستطيعون أن يحكموا إذا أرادوا، فالوصول إلى الحكم شيء والحكم شيء آخر، وتجربة الزعيم الوفدي سعد زعلول حاضرة عندما فاز بأغلبية كبيرة في البرلمان تمكنه من الانفراد بالحكم لأنه تردد وظل فترة طويلة قبل أن يعلن قراره، ولذلك لأنه رجل دولة، والدولة – والكلام للمستشار البشري- كالقلعة، إما أن تسيطر عليها وإما أن تُحبس داخلها!
وحول الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط وما تتعرض له مصر، أعرب المستشار البشري عن أسفه منذ العام 1979 حيث عقد النظام المصري وقتها اتفاقاً إستراتيجياً مع عدو إستراتيجي، فهدد بذلك نظرية الأمن القومي التي تعتمد بالأساس على الاستقلال، فما يهدده يهدد بالضرورة الأمن القومي، وهو ما جر البلاد إلى أزمات تلو أزمات، مشدداً على أهمية تضافر الجهود لوضع بديل للأوضاع الراهنة، فمن يمتلك البديل هو من سينضم له الناس وهو الأقوى.
كما أعرب عن أسفه أن الدولة المصرية باتت هي التنظيم الوحيد الذي يفعل كل شيء في مصر حتى في العمل الأهلي، وهذه مشكلة في حد ذاتها وعبء فوق العبء، مشيراً إلى أن مصر شهدت فترات أخرى فيها توزان للقوى، ولكنه غير موجود بسبب إرادة الدولة في إدارة كل شيء.
وتحدث المستشار طارق البشري باستفاضة عن تجربته مع العلمانية، وتقييم لها الآن في مصر والمحيط العربي والعالم الغربي وإسلامية المعرفة والإيمان بالغيبيات، وأهمية العقل بجوار القلب في معرفة الله عز وجل معرفة توصل إلى إيمان عميق متجذر وفهم دقيق متزن، مشيراً إلى أنه يعتبر الفلاح أحد أهم عناصر الجمع بين علوم الدنيا وعلوم الدين خاصة الغيبيات، فهو الوحيد بين وظائف عدة الذي يستشعر معاني لا يستشعر بها معاني كبار من وصفوا من نفسهم بالعلمانية.
وأوضح البشري أن الإيمان يتميز عن الإسلام وليس يختلف، فالإيمان يتعلق بالقلب، والإسلام يركز على الأحكام والعبادات والنصوص، والعقل في هذا الإطار يعمل على إدراك معارف من خلال الحواس عن طريق القياس والاستقراء، فلذلك الإسلام يحتاج إلى معرفة عقلية، أما الإيمان فهو قلب متعلق بالغيب.
أخطاء العلمانيين
وشن المفكر الإسلامي البارز هجوماً حاداً على الفلاسفة، مؤكداً أنهم أخطؤوا كثيراً فضلوا وأضلوا، وأنتجوا ما أسموه “خرافة الميتافزيقيا” لأنهم استخدموا العقل في معرفة الغيب، وهو أمر محال، لأن دور العقل غير متفق مع ما ذهبوا له، هو يقيس ويستقرئ؛ وبالتالي فكيف يعرف علماني أو فليسوف اللهَ بالعقل، وهو عز وجل لا تدركه الأبصار وليس كمثله شيء.
وأكد البشري أن العلمانية نشأت في الغرب وصعدت لأنها قامت في بلدان تؤمن طِبقاً للمعتقد المسيحي أن الإله شيء وأن القيصر شيء، وبالتالي مضت طرقهم وفصلوا الدنيا عن الدين، لأنه مفصول بالأساس، ولا تناقض بين العلمانية والمعتقدات المسيحية الحالية بكل صورها، لكن العلمانية مع الإسلام لا يتفقان، لأن الإسلام قائم على الدين والدنيا معاً، ولا يعرف الفصل؛ وبالتالي فالعلمانية هي تجاوز واضح للنظام الإسلامي الذي يمتلك الحل المبدع لكل شيء قبل أن تقوم الحملات لتعطيله وتحييده، مشيراً إلى أن القانون الفرنسي الذي وصف بأجلّ الأوصاف نكاية في الفكر الإسلامي ثبت بما لا يدع مجالاً للشك أنه مأخوذ من المذهب المالكي في الأندلس، ولكن الغرب ضحك علينا وقال: “ما أجمل القانون الفرنسي!”.
وأوضح البشري أن المسيحية الحالية أنشأت هيئة تتحدث باسم الإله وهي الكنيسة، ولكن الإسلام يحظر ذلك، وعلماء المسلمين أنفسهم تعرضوا لابتلاءات كثيرة في ظل استقلال الفكر الإسلامي عن الأطر المؤسسية، واستقلال الأطر المؤسسية في بعض الحالات عن الأطر التنفيذية السلطوية وهو ما دفع القاضي العالم العز بن عبدالسلام أن يبيع السلاطين في الأسواق.
تجربة مهمة
وحول تجربته من العلمانية إلى الفكر الإسلامي، تناول البشري أبعاد التطور الذي دفعه 6 سنوات إلى عدم الكتابة للوصول إلى الحقيقة، مشيراً إلى أنه كان “علمانياً قحاً”، بحسب وصفه، لمدة 12 سنة تقريباً، علمانية القوانين والدراسات، ولكنه ارتبط بالفقه الإسلامي والشريعة في مجال دراسة وتأمل مع شيوخ أجلاء كالشيخ محمد أبو زهرة الذي جذبه بعمق أفكاره إلى الساحة الفكرية الإسلامية، وهو ما ساعده على التحول بجانب الانهيار الذي رصده للأفكار العلمانية وارتباطه بالتصوف الإسلامي كفكرة وليس تنظيماً، فهو لا يحب التنظيمات، بحسب قوله.
وسرد قصة ذات أبعاد مهمة في معرفة التطور العلماني في مصر، مشيراً إلى أن العلمانية الأولى التي كان يجسدها القاضي السابق عبدالعزيز فهمي في قمة مجده ذهب إليه الوزير مصطفى مرعي يسأله عن نصحه عن توليته منصباً في محكمة النقض، فنصحه بقراءة موافقات الشاطبي حتى يصلح للقضاء، في إشارة إلى عدم محاربة جيل الأجداد في العلمانية إلى الفقه والشريعة الإسلامية، كما أن كمال أتاتورك –والكلام للبشري- وهو قمة رموز العلمانية ظهر في عصره الإمام النورسي، وعجز عن التصدي لفكره الذي توغل في تركيا.
وانتقد المفكر الإسلامي الكبير ما وصفه بالجهل الكبير لدى العلمانيين بالحضارة الإسلامية والفكر الإسلامي، ساخراً من استخدامهم لكتب طه حسين، والشيخ علي عبدالرازق في ظل أن الاثنين تراجعا عما كتباه ونقحاه في صورة جديدة متوافقة مع حقائق الفكر الإسلامي الحضاري، مشيراً إلى أن العلمانية في مصر الأن باتت طائفية، والداعون لها أصبحوا طائفة تحب الحكم الاستبدادي، فنفوذهم يظهر في الحكم الاستبدادي ولا يظهر في الحكم الشعبي.
وأوضح أن صدام المحافظين والمجددين في الحركة الإسلامية في بدايات القرن العشرين ساهم في تفوق للفكر الغربي، ولكن مع ظهور الشيخ محمد الغزالي، والشيخ يوسف القرضاوي، وظهور حركة الجمع بين الفكر المحافظ والمجدد بظهورهما تبدلت الأمور واستطاعت الحركة الإسلامية الوصول إلى قلب المؤمنين بالأفكار الغربية بكل سهولة.