تعددت الظواهر والعادات المعاصرة الدخيلة على بلاد المسلمين، وابتُلي بها بعض أبنائنا وبناتنا، حتى صارت جزءًا من حياتهم اليومية، بل صارت عند بعضهم طريقةَ حياةٍ، عليها يحيون، وفيها يُفكِّرون، وبتطوراتها وتلوُّناتها ينشغلون، منها ظاهرة الوشم الذي اكتسح أجسادهم، وظاهرة قصات الشعر المعاصرة، التي صارت لافتة للأنظار، وظاهرة ثقب الجسد بالأقراط، وما يعنيه ذلك عندهم من تحدٍّ للجسد وإثبات الذات، وظاهرة لبس الأقمصة الممزقة، والسراويل المشقَّقة، والمعاطف المترهِّلة المتدلية، وظاهرة تشبه الرجال بالنساء، وتشبُّه النساء بالرجال، وما أفرزته من ملابس و”أكسسوارات” سمَّوها بـ”ملابس الجنس الواحد”، يتشابه في لُبسها الذكور والإناث، وظاهرة لبس ما عليه علامات أو رموز أو عبارات غير شرعية، تحيل على توجُّه ديني معين، أو طائفي، أو فكري.
وكانت لهذه الظواهر دوافع ذاتية، يمكن إجمالها في ثمانية أمور:
- ضَعف المعرفة الحقيقية بشرع الله وموقفه من هذه الممارسات.
- التقليد الأعمى للمشاهير في الغرب.
- الجري مع صيحات الموضة المعاصرة.
- إرادة التميُّز والتفرُّد عن السواد الأعظم من الناس.
- إظهار رفض مقاييس الجمال المتعارف عليها اجتماعيًّا.
- اعتقاد الزينة التي تُضفي عليهم من الجمال والبهاء ما يظنُّون أنه يجعلهم مثارًا للإعجاب.
- اعتبار ذلك شكلًا من أشكال التحرُّر ولفْتِ الانتباه.
- اعتقاد بعضهم أن بعض هذه العادات “تعويذة” يرون أنها تَقِيهم العينَ والحَسَد.
ولنا أن نتساءل عن الدوافع الموضوعية (الخارجية) التي أسهمت بشكل فعَّال في انتشار هذه التقليعات، وتكاثُر عدد من يتعاطاها ويتفاعل معها، وهي دوافع عديدة، نركِّز منها -اليوم إن شاء الله تعالى- على الدافع الذي يعتبر الأقوى بين الدوافع الأخرى، وهو: “ضعف دور الأسرة في تنشئة الطفل على التديُّن الصحيح، الكفيل بوقايته من سرعة التأثُّر بالعادات الخارجية، والمؤثِّرات الدخيلة”.
فالطفل المسلم يجب أنه يُربَّى على ممارسة أنشطته التعبُّديَّة؛ كالصلاة التي يُؤمَر بها لسَبْع، ويُضرَب عليها وهو ابن عشر؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: “مُروا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر سنين” (صحيح سنن أبي داود)، والتدريب على الصيام مرة مرة، وبخاصة عند استغلال بعض المناسبات الدينية، كصوم يوم عاشوراء؛ فعن الرُّبيع بنت معوِّذ رضي الله عنها قالت: “أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم غداة عاشوراء إلى قُرى الأنصار التي حول المدينة: ((من كان أصبح صائمًا فليتمَّ صومه، ومن كان أصبح مُفطِرًا فليُتِمَّ بقية يومه))، فكنا -بعد ذلك- نصومه، ونصوِّم صبياننا الصِّغار منهم إن شاء الله، ونذهب بهم إلى المسجد، فنجعل لهم اللعبة من العهن (الصوف المصبوغ)، فإذا بكى أحدُهم على الطعام، أعطيناها إيَّاه حتى يكون عند الإفطار” (متفق عليه).
قال الحافظ ابن حجر رحمه الله: “وفي الحديث حجة على مشروعية تمرين الصبيان على الصيام”، ثم قال: “إن كثيرًا من العلماء استحبُّوا أن يدرب الصبيان على الصيام والعبادات، رجاء بركتها لهم، وليعتادوها، وتسهُل عليهم إذا لزِمتهم”.
وقال المهلب رحمه الله: “وفي هذا الحديث من الفقه أن من حمل صبيًّا على طاعة الله، ودرَّبه على التزام شرائعه، فإنه مأجور بذلك”، كيف لا، ومن السبعة الذين يُظِلُّهم الله في ظلِّه يوم لا ظلَّ إلا ظله: “شاب نشأ في عبادة ربِّه” كما في الصحيحين؟
وأمر صلى الله عليه وسلم بتعليم الصغار كتاب الله، حفظًا، وتلاوةً، واعتناءً، وتقديرًا، وهو داخل في عموم قوله صلى الله عليه وسلم: “خيرُكم مَنْ تعلَّمَ القرآنَ وعلَّمَه” (البخاري)، وقوله صلى الله عليه وسلم: “ومن سلك طريقًا يلتمس فيه علمًا، سهَّل الله له به طريقًا إلى الجنة” (مسلم).
قال السيوطي رحمه الله: “تعليم الصِّبيان القرآن أصلٌ من أصول الإسلام، فينشؤون على الفطرة، ويسبق إلى قلوبهم أنوار الحكمة قبل تمكُّن الأهواء منها، وسوادها بأكدار المعصية والضلال”.
وقال ابن خلدون رحمه الله: “تعليم الولدان للقرآن، شعار من شعائر الدين، أخذ به أهالي الملَّة، ودرجوا عليه في جميع أمصارهم، لما يسبق إلى القلوب من رسوخ الإيمان وعقائده، بسبب آيات القرآن، ومتون الأحاديث، وصار القرآن أصلَ التعليم الذي بُني عليه ما يحصُل بعدُ من الملَكات”.
ولذلك قال عبدالله بن عباس رضي الله عنهما: “من قرأ القرآن قبل أن يحتلم، فهو ممن أُوتي الحُكْم صبيًّا”.
هذا فضلًا عن تربية الولد صاحب القرآن، الذي سيكون خلفًا بارًّا صالحًا، يذكر والديه بالدعاء الصالح بعد وفاتهما؛ بل قد يكون سببًا في دخولهما الجنة.
قال صلى الله عليه وسلم في حديث بديع رقراق: “وإن القرآن يلقى صاحبه يوم القيامة -حين ينشقُّ عنه قبره- كالرجل الشاحب، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك، فيقول له: هل تعرفني؟ فيقول: ما أعرفك. فيقول: أنا صاحبك القرآن الذي أظمأْتُك في الهواجر، وأسهرتُ ليلَكَ، وإن كل تاجر من وراء تجارته، وإنك اليوم من وراء كل تجارة، فيعطى الملك بيمينه، والخُلْد بشماله، ويوضع على رأسه تاج الوقار، ويُكسى والداه حُلَّتَينِ لا يقوم لهما أهل الدنيا، فيقولان: بم كسينا هذه؟ فيُقال: بأخذ ولدكما القرآن، ثم يُقال له: اقرأ واصعد في درجة الجنة وغُرفها، فهو في صعود ما دام يقرأ، هذًّا كان (مسرعًا في القراءة)، أو ترتيلًا” (رواه أحمد، وهو في الصحيحة).
ولذلك أرانا سعيد بن العاص رضي الله عنه أنه قد أتقن رسالته في التربية، وأدَّى حقَّ ابنه عليه حين قام بثلاثة أمور، قال: “إذا علمتُ ولدي القرآن، وأحججتُه، وزوَّجتُه، فقد قضيتُ حقَّه، وبقِي حقي عليه”.
والاهتمام بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم له مكانة عظيمة في حسن التنشئة على السنة الحسنة، والطريقة الصحيحة؛ قال إبراهيم بن أدهم: قال لي أبي: “يا بني، اطلب الحديث، فكلما سمعت حديثًا وحفظته فلك درهم”، فيقول إبراهيم: “فطلبت الحديث على هذا”.
ولا يقلُّ أمر الاهتمام بتربية البنات عن تربية البنين؛ بل خُصَّت البنات برعاية مميَّزة؛ لما للمرأة – عمومًا – من أثر كبير على سائر المجتمع إن هي صلحت في نفسها، وتشبَّعت بالأخلاق الإسلامية التي تنبت معها منذ صِغَرها؛ فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “من يلي من هذه البنات شيئًا، فأحسَنَ إليهنَّ، كُنَّ له سترًا من النار”؛ البخاري، وعند الطبراني: “وأحسَنَ أدبَهُنَّ”، وفي الأدب المفرد: “فأحسَنَ صُحْبَتَهُنَّ”.
ومن عظيم الإحسان للبنات تعليمهن أخلاق الإسلام في اللباس، والكلام، والمشي، والخروج، والتعامل مع القرناء ذكورهم وإناثهم، في المدرسة، وفي الشارع العام، ومع الجيران، وكيف تحرص على حيائها، وتعتزُّ بدينها، وتهتمُّ بحجابها، وستر جسدها، وكل ذلك داخل ضمن قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلَا يُؤْذَيْنَ} [الأحزاب: 59]، فإذا عرفن بالحياء والعفَّة، عزفْنَ عن مثل هذه الألبسة الضيِّقة الممزَّقة، واستنكفْنَ عن مجاراة هذه الموضات الدخيلة، وقلَّ طمع الذكور فيهن، فحفظْنَ أنفسهن من أذاهم، وتعليقاتهم، وما يُسمَّى اليوم بـ”التحرش” الذي لا ترجع حقيقته إلى الذكور فقط؛ بل إلى الإناث أيضًا حين يخرُجْنَ سافراتٍ متبرِّجاتٍ بزينةٍ، عليهن من الثياب الواصفة، والعطور المثيرة، ما يجذب هؤلاء الشُّبَّان إليهن، وقد قال أحد المفكِّرين الغربيِّين يحكي واقع الغرب: “أن يكون هنالك آباء صالحون، أمر يحتاج إلى نساء صالحات”، فالجريرة من الجهتين، والعتاب على القبيلين.
لقد تخلَّت بعضُ الأُسَرِ عن دورها في توجيه الأبناء والبنات إلى ما وصانا الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وسلم به من الاحتياط الشديد في التربية المبنية على هدي ديننا الحنيف؛ بل من الأولياء مَنْ يرى هذا الاحتياط تخلُّفًا وتشبُّثًا بالماضي، وأن الأبناء يجب أن يمارسوا حياتهم بكل تلقائية وعفوية، اندماجًا مع أقرانهم، وتكيُّفًا مع ظروفهم، وتحقيقًا لذواتهم، وانسجامًا مع ممارسة حريتهم، ويرون أن تدخُّل الآباء في تفاصيل شؤون أبنائهم، قد يصيبهم بالتعقيد والانزواء، وما علموا أن في محيطهم من الأهواء والشهوات والمزالق، ما قد يورثهم سوءَ العاقبة، ويعود على الأبوين المفرطين باللائمة، وما علموا أن تنشئتهم على التدين تقيهم كثيرًا من أمراض المدنية الحديثة.
فقد راقب باحثون التطوُّرَ الجسديَّ والذهني لأكثر من 5000 شخص من الفئة العمرية بين 8 و14 سنة، حتى بلوغهم العشرين، ووجدوا أن مستوى سعادة الأطفال والشباب المشاركين في أداء العبادات، ولو لمرة واحدة في الأسبوع، يكون أعلى بنسبة 18% عندما يصلون إلى سن الـ20، مقارنة بنظرائهم غير المشاركين إطلاقًا.
كما خلصت نتائج الدراسة إلى أن الأطفال والمراهقين الذين يُؤدُّون العبادات، يكونون في سن الـ20 أكثر إقبالًا بنحو 30% على المشاركة في الأعمال التطوعية، وأقل احتمالًا بنسبة 33% للوقوع في شَرَك إدمان المخدِّرات.
فهلا تنبَّه أولياء الأمور إلى ضرورة تخصيص الوقت الكافي لمراقبة أبنائهم، وتتبُّع أحوالهم وأفكارهم، قبل أن يفوت الأوان؟!
—–
* المصدر: الألوكة.