أذكر عندما كنت صغيراً رأيت شخصاً يعيد وضوءه أكثر من مرة، فسألت قريبي عن السبب، فقال: هذا هو الوسواس، يعيد الرجل وضوءه أكثر من مرة لشكه بأنه توضأ أم لا، أعانه الله.
تذكرت ذلك عندما درست بعض المواد النفسية، وشاركت في لجان الصحة النفسية مع أطباء نفسيين، ليتبين لي لاحقاً مدى تغلغل المشكلات النفسية في نفوس البشر، الأصحاء والأسقام، الفقراء والأغنياء، المتعلمين والجهال، المتحررين والمتدينين، بمختلف الأجناس والأعراق والألوان، كلهم على حد سواء معرضون للإصابة بالأمراض النفسية، بسيطها وصعبها، مثل جميع الأمراض، إلا من رحم الله.
لذا.. كان من الضروري عدم الحكم على الناس من تصرفاتهم دون معرفة طبيعتهم ونفسيتهم، التي تبدأ من الحساسية والمزاجية والزعل والانفعال.. إلخ، مروراً بالوسواس القهري والاكتئاب.. إلخ، وانتهاء بالانفصام واضطراب الهوس الوجداني.
قرأت رواية «تشخيصات نفسية عبر آلة الزمن»، وهي قصة حقيقية كتبها د. عادل الزايد، استشاري الطب النفسي والإدمان، وأحد أكبر الأطباء النفسانيين في الكويت، الذي تميز بالجمع بين الطب والفكر والدين والأدب والتاريخ والثقافة اللامتناهية، ورغم عدم إقبالي على قراءة الروايات لكثرة كتّابها الذين أساؤوا لمفهوم الرواية، فقد استمتعت بهذه الرواية لحجم الثقافة والمعلومات التي تلقيتها من حوارات د. عادل، ود. محمد، وبو مساعد.
كانت رسالة المؤلف في هذه الرواية، هل «الحلاج» من خلال كلامه، رجل سوي بكامل عقله، أم به اختلال نفسي؟! وكذا «ابن عربي»، ولم يتطرق إلى الجانب الشرعي البتة، لإقراره بأن ذلك من اختصاص علماء الشريعة، كما هو الفحص من اختصاص الطبيب النفسي، خصوصاً أن لهما أتباعاً كثراً حول العالم.
يتمتع الحلاج، وابن عربي بإنتاج علمي وأدبي غزير، ولديهما من الأقوال البلاغية الجميلة والرائعة، وبالمقابل لديهما من المتناقضات اللفظية والسلوكية الشيء الكثير، وهذا ما أثار التساؤل حول سلامتهما النفسية.
كما أن هناك شكاً في أن جميع ما نسب إليهما من أقوال هي لهما، مثل جميع العقائد والأفكار التي طالها التغيير والتزييف والتزوير عبر التاريخ.
سافر د. عادل إلى مصر والهند وتركيا ومدن أخرى للوقوف على معلومات تاريخية كثيرة، ليس لأجل هذين الشخصين، إنما هو شغف الثقافة وحب العلم وممارسة الرياضة، وما فتئ يجمع بين تلك المعلومات في لقاءاته العلمية والثقافية والطبية مع مختلف المختصين، كما هي قطع الصورة المتناثرة (Puzzle)، وأثبت بما لا يدع مجالاً للشك مع مجموعة من الأطباء النفسيين أن الحلاج، وابن عربي كانا مختلين نفسياً، وكانا لا يعيان بعض ما يقولان ويمارسان من طقوس وملابس، ووصف حالتهما «اضطراب الهوس الوجداني»، وانتهت الرواية.
حرصت على ذكر هذه التفاصيل للإشارة إلى خلاصة مهمة، وهي:
1- لا ينبغي علينا أن نحكم على الناس دون معرفة أحوالهم الشخصية والنفسية، التي انعكست على سلوكياتهم وأقوالهم، وكم رأينا أناساً تغيرت شخصياتهم بتغيير التعامل، أو البيئة، أو بالعلاج.
2- أن نمارس عبادة مهمة وهي حسن الظن، وأن يعذر بعضنا بعضاً، وأن نحمد الله على نعمة الصحة والعافية.
3- كلنا معرض للأمراض النفسية، بسيطها وكبيرها، فاسألوا الله العافية والسلامة.
4- يتعرض الشباب للإلحاد والانتحار والانحراف، وهي أزمة متكررة لأسباب نفسية، فلنكن لهم عوناً، لا أن نعين الشيطان عليهم.
والله يحفظكم.
____________________________
يُنشر بالتزامن مع صحيفة “الأنباء” الكويتية.