نتناول في هذه المقالة أحد مظاهر الهجرة للشباب العربي في العصر الحديث، في ضوء نماذج الهجرة في القرآن الكريم، وقياساً على أنواعها ومؤشراتها، في محاولة للبحث عن أسباب تلك الهجرة والخسائر المنتظرة على العالم العربي من جرائها.
صنف أحد المفكرين المعاصرين الهجرة في ضوء القرآن إلى خمسة أنواع حسب الوجهة والغرض والعائد منها، وجاء هذا التصنيف كالتالي(1):
1- الهجرة المتعهدة أو الملتزمة: ويقصد بها الهجرة من المحيط الفاسد إلى المحيط السالم حتى يمكن العودة إليه ثانية من أجل التغيير؛ لذلك فهنا تأتي مرحلة الذين «آمنوا»، وبعدها تأتي مرحلة الهجرة، الذين «هاجروا»، وهذه المجموعة المهاجرة هي التي تستطيع أن تعمل من محيط آمن حتى تصل إلى مرحلة «الجهاد»، ومن متطلباته الثبات والقوة.
2- الهجرة الحرة: في ظروف معينة وخاصة تظهر أمور من شأنها أن تعرقل مسيرة العودة للمهاجرين مؤزرين بالنصر، ومن تلك الظروف المحيط السياسي أو الاجتماعي أو الفكري، وحتى من الممكن أن يكون الظرف ظرفاً عشائرياً، وهنا تصبح الهجرة غير ملزمة بالعودة والنصر، وقد تكون هجرة فردية أو جماعية، وهي الخروج من المحيط الفاسد من أجل الحفاظ على العقيدة والفكر والإيمان؛ فقصة أصحاب الكهف قصة لشخصيات مفردة كانوا يعيشون في مجتمع فاسد ومحيط غير ملتزم، فأرادوا الخروج من ذلك المحيط والفرار بدينهم والمحافظة على عقيدتهم، فلم تكن هجرتهم هجرة من ورائها رجوع وعودة حافلة بالنصر والتغيير، بل كان القصد من الهجرة النجاة والحفاظ على الدين، وقد فضّلوا تلك الهجرة على ذلك البقاء المصحوب بالذلَّة والهوان.
3- الهجرة العلمية: إن إحدى خصوصيات تاريخ العلم هي الهجرة في سبيل طلبه، ففي فترة من الزمن وحتى عصر النهضة الفكرية كان العلم منحصراً ومقتصراً على زوايا المكتبات والغرف، وقد أعطى القرآن الكريم للهجرة نظاماً وخاصية لمطالعة الأمور التاريخية والاستفادة منها، فطلب من العلماء أن يهاجروا ليكتسبوا العبرة والعلم عند مطالعتهم للأقوام وآثارهم، حيث تقول الآية الشريفة: (فَسِيرُواْ فِي الأَرْضِ فَانْظُرُواْ) (آل عمران: 137)، وفي آية أخرى جاءت تحث على الهجرة والسفر من أجل المطالعة والاكتشاف؛ (أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا) (الروم: 9).
فالهجرة التي يدعو إليها القرآن هنا هجرة المطالعة والاكتشاف العلمي، وليست هجرة النزهة وقضاء الوقت، والنقطة المهمة اللافتة للنظر في هاتين الآيتين أن علة زوال المجتمعات ونهايتها هي الظلم والفساد والأعمال السيئة، وليس الجبر التاريخي أو الصدفة أو إرادة السماء أو عوامل أخرى خارجة عن إرادة الإنسان.
4- الهجرة الاقتصادية: يصرح القرآن بأن المهاجرين سوف يحصلون على غنائم كثيرة، وهذه الغنائم التي يحصلون عليها هي أمور معنوية ومادية؛ (وَالَّذِينَ هَاجَرُواْ فِي اللّهِ مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُواْ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً) (النحل: 41)، (وَالَّذِينَ هَاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ مَاتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً) (الحج: 58)، ولم يكن هذا الأمر ليتم إلا بواسطة الرعاية والفضل الإلهي، وهذا الفضل هو النعم المادية التي يحصل عليها الإنسان من الهجرة، وتصبح الهجرة عاملاً اقتصادياً مؤثراً في تقدم الحياة.
5- الهجرة الذاتية والإنسانية: خاطبت الآيات القرآنية الأولى الرسول صلى الله عليه وسلم فقالت: (قُمْ فَأَنذِرْ {2}) (المدثر)، وهذه الآية واضحة المعنى، حيث تطلب من الرسول القيام بدعوة الناس وإنذارهم؛ لأن الرسول يمتلك مسؤولية اجتماعية كبيرة فعليه القيام بها، (وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ {4}) (المدثر)؛ فهذا يعني أن الهجرة هجرة ذاتية داخلية.
إذن فالهجرة الذاتية أو الداخلية للإنسان هي هجرته من وضعه الحالي الموجود فيه إلى الوضع الجديد الذي يجب أن يكون عليه، فالإنسان يكون دائماً في هجرة وحركة مستمرة في حياته ووضعه الخارجي والعيني، سواء كان اقتصادياً أو فكرياً أو سياسياً أو علمياً، وكذلك في وضعه النفسي والداخلي وفطرته وماهيته ووجوده، فيجب أن يكون في حالة حركة وهجرة مستمرة، وعليه أن يحطم ذلك السكون المتوقف عنده سواء في الظاهر أو الباطن.
وقد منح الرسول صلى الله عليه وسلم أصحابه أفضل الألقاب وفي أصعب الظروف التي مروا بها، وهذه الألقاب هي لقب المهاجر أو المهاجرين، والمهاجرة صفة من أعظم الصفات التي يتصف بها الإنسان، أو هي أفضل وسام يحمله الإنسان.
الشباب العربي وهجرة الأفكار والحريات:
تعرض كثير من الشباب العربي في العقد الثاني من القرن الحالي إلى موجة كبيرة من الاضطهاد الفكري؛ بسبب ما يحمل من أفكار حول الحريات والعدالة الاجتماعية والرغبة في تداول السلطة بين الأنظمة الحاكمة والشعوب، وأعلن في سبيل تلك الرغبة شعاراته التي تحمل هذه الأفكار في مواجهة الأنظمة الحاكمة؛ مما جعل هذه الأنظمة تعمل على مواجهته بالقوة وليس بالحوار الراشد أو بتبادل الأفكار، ومثلت تلك القوة في أدناها حبس الحريات عن طريق السجن والاعتقال، وفي أعلاها القتل والتصفية لهذه الأصوات التي مثلت شعاراتها رغبات شعوبها المليونية.
وكانت «الهجرة» أهم السبل التي لجأ إليها الشباب العربي جماعات وفرادى، حاملين أفكارهم نحو الحرية والعدالة والتداول، حيث إن مواجهة الدولة «التنين» المدججة بالأسلحة من ناحية، والخلو من كل حق من حقوق الإنسان أمر يصعب على الإنسان مواجهته وتحمله من ناحية أخرى، واتخذت هذه «الهجرة الفكرية» أو «هجرة الحريات» مسارين:
الأول: مسار داخلي؛ أي داخل الوطن العربي نفسه، فاختار بعض الشباب التوجه الثقافي نحو بعض الدول التي يمكن أن ترعى حقوقهم بصفتهم مهاجرين إليها، ليست لهم أي حقوق سياسية لهم فيها، ومن ثم لا يشكلون خطراً عليها.
أما المسار الثاني فتمثل في الهجرة الخارجية إلى دول أوروبا وأمريكا، وكان هذا المسار الأكثر عدداً إلى درجة يمكن أن نصفها بالهجرة الجماعية، حيث يمكن للشباب في هذه الدول أن يجهروا برغباتهم نحو الحرية والعدالة والتداول للسلطة عبر وسائل مختلفة دون أن يتم التعرض لهم بأي سوء.
الهجرة الفكرية والخسائر العربية الفادحة:
قدرت كلفة هجرة الأدمغة(2) خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين للدول العربية بنحو 200 مليار دولار تقريباً –حسب التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية 2010م- ولكن الحقيقة أن الهجرة الفكرية التي شهدها العالم العربي خلال العقد الحالي تفوق كلفتها المادية ما يضاعف ذلك، إذ إن خسائر هجرة الأفكار الصالحة عن أوطانها تؤدي إلى خسائر حضارية لا تعوض بالمال –ولا نقلل في ذلك من هجرة الأدمغة العلمية؛ إذ إنها تشكل هي الأخرى وجهاً من وجوه الهجرة الفكرية- ومن أهم هذه الخسائر انقطاع حركة الإصلاح الحضاري الذي تمارسه الأفكار الصالحة في أوطان تقع تحت نيران الجمود والتخلف والتبعية للاستعمار، وهذه الثلاثية تتوطن عندما تغيب أو تهاجر أفكار الحرية والعدالة والتداول، ومن ثم تعيش تلك الأوطان أحادية التخلف والإفساد في غياب أفكار التدافع؛ فيكون المصير المنتظر التراجع الحضاري والإنساني لهذه الأوطان.
ومن الخسائر أيضاً لهذه «الهجرة الفكرية» توقف حركة التغيير المجتمعي على المستوى الأخلاقي والقيمي والثقافي –بصفة عامة- التي أنجزته هذه الأفكار في مجتمعاتها عبر عقود طويلة، ووقوع المجتمع العربي في براثن المصالح الغربية منفرداً عن أي مقاومة فكرية لتلك المصالح، كذلك فإن تراجع الوعي العربي بقضية «النهضة العربية» التي بدأت أفكارها منذ قرنين من الزمان أحد وجوه هذه الخسائر التي تجنيها مجتمعاتنا من الهجرة الفكرية للشباب العربي.
____________________
الهامشان
(1) شريعتي، علي. تاريخ الحضارة 1/2، ترجمة حسين نصيري، بيروت، دار الأمير، 2006، ص104 – 109.
(2) انظر: التقرير العربي الثالث للتنمية الثقافية، 2010، ص162.