أن يصل سعر كيس الخبز في لبنان إلى 3000 ليرة، وأن يصل سعر الدولار الواحد في السوق السوداء إلى حوالي 15 ألف ليرة لبنانية، معناه أن البلد الذي يعد حليفاً هاماً لفرنسا وأوروبا في منطقة الشرق الأوسط في حالة انهيار اقتصادي، في ظل تعقد المعضلة اللبنانية، لم يبق أمام دول الاتحاد الأوروبي سوى المزيد من ممارسة الضغوط على السلطات اللبنانية في ظل وضع إقليمي معقّد.
لبنان ينهار والسبب “المصالح الخاصة”
في هذا السياق، كانت الدبلوماسية الفرنسية نشطة في اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي يوم 22 مارس الجاري، حيث شدّد وزير الخارجية الفرنسي جون إيف لودريان على أنه «لا يمكن للاتحاد الأوروبي أن يقف مكتوف الأيدي ولبنان ينهار»، وأكد أن أوروبا «لا يمكنها أن تنفض يديها من هذه الأزمة ويتعين أن تكون حاضرة»، مضيفاً أن «هذا البلد يسير على غير هدى وهو منقسم، وعندما ينهار بلد ما، يجب أن تكون أوروبا مستعدة».
وأضاف الوزير الفرنسي قائلاً: «الجميع يعلم أن الحلول موجودة ويتعين قيام حكومة جامعة وقادرة على التحرك والعمل، وهناك حاجة للقيام بإصلاحات».
وجاء في معرض تفسيره لأسباب الأزمة اللبنانية بأن «المصالح الخاصة» هي التي تمنع تحقيق الإصلاح المنشود وتعيق عملية إنقاذ لبنان.. لذا كانت دعوته للاتحاد الأوروبي واضحة: «أريد أن نتبادل الرأي جميعاً والنظر في الرافعات التي يمكن أن تمكننا من ممارسة الضغوط على السلطات اللبنانية، لأن اللبنانيين مصابون بالقلق والحيرة”.
الرافعة الأوروبية
ماذا يعني حرص باريس على إيجاد «رافعة» أوروبية للضغط على سياسيي لبنان؟ إن ذلك يعني أن الوضع اللبناني المعقّد يمر بمرحلة التدويل، وأن اللعبة الدولية في لبنان أصبحت تتجاوز قدرة فرنسا على التأثير لوحدها على المشهد اللبناني، لذلك لجأت إلى الكتلة الأوروبية علها تحقق ضغوطاً جادة على الطبقة السياسية اللبنانية من أجل دفعها إلى الاتفاق على حكومة تباشر مهمة إنقاذ البلد من الانهيار.
والإشكال أن القضية اللبنانية ليست مسألة حيوية بالنسبة لكل مكونات الاتحاد الأوروبي وذلك لوجود أولويات كبرى تشغل هذا الكيان خاصة في ظل جائحة كورونا وتداعياتها الاجتماعية والاقتصادية على المجتمعات الأوروبية.
وتبقى لبنان في نظر بعض الدول الأوروبية أقل شأن من دول أخرى ذات وزن استراتيجي في منطقة الشرق الأوسط مثل المملكة العربية السعودية وتركيا وإيران والعراق والكيان الصهيوني.. كما أن هذه الدول ترى في لبنان بلداً صغيراً وليس له موارد الطاقة ويعاني من أزمة سياسية واقتصادية واجتماعية خانقة فلا يمكنه إلا أن يكون عبئاً على الاتحاد الأوروبي.
في المقابل، تبدي ألمانيا وإيطاليا ودول أخرى بعض الاهتمام لمصالح اقتصادية بالدرجة الأولى، لكن تبقى فرنسا هي أكثر اهتماماً بهذا البلد، وحرصها على “الرافعة” الأوروبية يعني أنها بدأت تشعر أنها يوماً بعد يوم بصدد خسارة نسبة من ثقلها الاستراتيجي في منطقة الشرق الأوسط.
العلاقة التاريخية اللبنانية الفرنسية
وليس خافياً على أحد مدى الارتباط القوي بين فرنسا ولبنان على كل المستويات تاريخيا وسياسيا واقتصاديا وثقافيا. ولا يمكن الحديث عما يحصل في لبنان اليوم دون العودة إلى الماضي منذ القرن السادس عشر في العهد العثماني حيث قامت علاقته دبلوماسية قوية بين الامبراطورية العثمانية في عهد السلطان سليمان وفرانسوا الاول.
واستغلت فرنسا هذه العلاقة المتميزة لتضغط في اتجاه تحقيق مصالحها خاصة عندما بدأت مؤشرات ضعف الدولة العثمانية سياسياً واقتصادياً، فحصلت على امتيازات في شكل تنازلات وأهمها حق الاشراف على مسيحي الشرق الذين كانوا تحت الحكم العثماني.
وهكذا ترسخت أقدام فرنسا في لبنان ثم في سوريا حيث عملت على دعم نخب مسيحية وبث فكرة القومية عن طريقهم (ميشال عفلق وغيره) وتبني سياسة فرّق تسد عبر تشجيع العرب والأكراد على التمرد على العثمانيين الاتراك.
وجاءت اتفاقية سايس بيكو الفرنسية البريطانية السرّية سنة 1916م في قلب الحرب العالمية الأولى للإجهاز على وحدة الإمبراطورية العثمانية.
وتمكنت القوى الأوروبية وعلى رأسها فرنسا وبريطانيا من السيطرة على مفاصل الشرق الأوسط بدعم من منظمة عصبة الأمم (قبل الأمم المتحدة)، عبر استعمار مقنّع سمّي بالانتداب الفرنسي في سوريا ولبنان والانتداب البريطاني في العراق والأردن وفلسطين..
والنتيجة، احتلال فرنسي للبنان من سنة 1920 إلى سنة 1943م، ركز على رعاية النخبة المسيحية التي ترى في فرنسا “الأم الحنون” وهي ترعاهم كـ”الطفل المدلل”.
ولم ينته “الانتداب” الفرنسي لهذا البلد إلا بعد أن ركز نظاماً سياسياً طائفياً هجيناً، يقوم على تمييز طائفة المسيحيين الموارنة الذين انفردوا برئاسة الجمهورية اللبنانية رغم أنهم أقلية، في حين ترجع رئاسة الحكومة إلى السنّة، ورئاسة السلطة التشريعية إلى الشيعة.. ولا يمكن أن يفرز مثل هذا النظام الهجين إلا هزات كبرى (الحرب الأهلية سنة 1975م) وعدم استقرار سياسي كما الحال اليوم.
لبنان بوّابة فرنسا للشرق الأوسط
الإشكال هو الدعم الفرنسي القويّ لهذا النظام الهجين إلى اليوم، بالرغم من التحولات العامة في التركيبة الاجتماعية والدينية والسياسية للبنان، وارتباطها بالتدخلات الإقليمية والدولية في الشأن اللبناني، وعلى رأسها التدخل السوري الإيراني، وتداعياته الخطيرة من أهمها تضخم حزب الله “ذراع إيران” في لبنان ليصبح الآمر الناهي مستقوياً بطهران وتمددها الشيعي في المنطقة، ومتحالفاً مع الرئيس ميشال عون للسيطرة على القرار السياسي، الامر الذي يفسّر فشل تشكيل حكومة جديدة، وقد اتهم رئيسُ الوزراء اللبناني المكلف سعد الحريري الرئيسَ ميشال عون بالتمسك بالثلث المعطل، وبإصراره على أن يحظى حلفاؤه السياسيون بأغلبية مُعطلة في الحكومة، وبالتدخل في صلاحياته.
أمام هذا المأزق السياسي، كثرت المساعي الفرنسية من أجل البحث عن مخرج لهذه المعضلة التي أوصلت البلد إلى عتبة الانهيار.
في هذا السياق، نزل الرئيس الفرنسي ماكرون بكل ثقله، فقد قام بزيارة إلى بيروت في أعقاب تفجير مرفأ بيروت في 4 أغسطس الماضي وعرض عندئذ خطة “إنقاذية” جدّدها في سبتمبر، وحصل على موافقة القوى السياسية الرئيسة عليها قبل أن ينقلب بعضهم عليها سريعاً.
كما صرّح على هامش زيارة رئيس كيان الاحتلال الاسرائيلي إلى باريس محذراً من أن هناك حاجة لـ«تغيير مقاربتنا ونهجنا» في التعاطي مع الأطراف اللبنانية الفاعلة في الساحة، لأن «زمن اختبار المسؤولية قد اقترب من النفاذ».
وشدد ماكرون على أنه «يجب علينا بذل قصارى جهدنا لتجنب انهيار لبنان»، وأن فرنسا «لا يمكنها أن تترك الشعب اللبناني في الوضع الذي هو فيه”، بل إن ماكرون لجأ إلى الفاتيكان للضغط على اللوبي المسيحي في لبنان.
وها هو وزير خارجية حكومته جون إيف لودريان يدعو خلال اجتماع وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي الأخير إلى “النظر في الرافعات التي يمكن أن تمكننا من ممارسة الضغوط على السلطات اللبنانية”.
إن كل هذه التحركات وكل المساعي إن دلت على شيء فـإنما تدل على أن الطرف الفرنسي قلق من سلسلة التراجعات في وزن فرنسا الاستراتيجي إقليمياً ودولياً بعد نكسة ليبيا وفشل المراهنة على تقويض تجربة الربيع العربي هناك من أجل التمدد في شمال أفريقيا وفي العمق الأفريقي عموماً.
ولهذا هناك سعي لمنع انهيار لبنان الذي يُعتبر بوابة فرنسا للشرق الأوسط ومجالها الحيوي في المنطقة بما يمثله من أهمية استراتيجية حيث كان يسمى “سويسرا العرب” أو “سويسرا الشرق” علاوة على خصوصيات أخرى من بينها (الموقع: ساحل مفتوح على البحر المتوسط بشاطئ طوله 225 كلم، وحدود مع فلسطين المحتلة 97 كلم جنوباً، ومع سوريا 375 كلم شرقاً وشمالاً، وتنوع طائفي وديني كبير، وشعب عريق ومثقف وذو قدرات إبداعية مع أنه لا يتجاوز 5 ملايين، منهم نسبة هامة في المهجر)، ولهذا تتزايد المساعي الفرنسية لتعبئة الجهود الأوروبية من أجل تشديد الضغوط على “الشق المعطل” لتشكيل الحكومة في لبنان.
ترابط «القضية» اللبنانية بالملف الإقليمي
إلاّ أن الحديث عن “الشق المعطل” يقود إلى ملف معقد لا يمكن حله محلياً في لبنان بسبب بعده الإقليمي وهو ما يتعلق بدور حزب الله “ذراع إيران” المهيمن في لبنان، والضغط على هذا الطرف معناه إغضاب إيران التي تقوم بدورها بالضغط على الاتحاد الأوروبي وعبره على واشنطن للقبول بالاتفاق النووي في صيغته القديمة.
وهذا الترابط بين «المسألة» اللبنانية والملف الإقليمي هو الذي يشكل الحلقة المفرغة التي يصعب الخروج منها في ظل غياب الإرادة السياسية لفرض عقوبات على أطراف “الشق المعطل” لتشكيل الحكومة اللبنانية. كما أن فرنسا تجد نفسها بين مطرقة البعد الإقليمي وسندان غياب الإرادة السياسية لدى الأطراف الأوروبية للقيام بالضغوط الجادة لحلحلة الوضع اللبناني.
ويبقى الحل الوحيد أمامها هو اللجوء إلى معادلة صعبة تتمثل في اعتماد “سياسة واقعية” بإبقاء باب الحوار مفتوحاً مع «حزب الله» ومع إيران، والاستمرار في نفس الوقت في سياسة حث الأوروبيين وبلدان الخليج والفاتيكان على الضغط على الأطراف الفاعلة في لبنان لتشكيل حكومة تنقذ البلد من الانهيار.
لكن هذه المعادلة تُضعف من جدوى الضغوط لأن الطرف المهيمن على القرار السياسي في لبنان متمثلاً في “حزب الله” لا يشعر بالتهديد الحقيقي الذي سيردعه عن بسط نفوذه وتعطيل الحياة السياسية وما ينتج عنه من تعميق للأزمة – في هذا البلد المنكوب بجائحة كورونا – نتيجة التجاذبات والمناكفات السياسية المحكومة بالحسابات الطائفية، في الوقت الذي يدفع فيه الشعب ثمناً غالياً، حيث تؤكد تقارير البنك الدولي أن قرابة نصف السكان يعيشون تحت خط الفقر في لبنان.
إن أوروبا اليوم – وفرنسا خصوصاً- تجني ما زرعته من توظيف طائفي خدمة لمصالحها، وهي تقف أمام وضع معقد متشابك الأطراف في شكل حلقة دائرية يصعب الخروج منها دون تقديم تنازلات من شأنها إضعاف الدور الإقليمي للاتحاد الأوروبي في منطقة الشرق الأوسط.