هو عبد الله بن مسعود، وأمه اسمها “أم عبد”، كان النبيُّ -صلى الله عليه وسلم- يُلقِّبه بـــ”ابن أم عبد”؛ فقد كان عبد الله وأمه يخدمان النبي ويلازمانه ملازمة تامة، حتى إن أبا موسى الأشعري قال: “قدمتُ أنا وأخي من اليمنِ، فكنا لا نرى ابنَ مسعودٍ وأمَّه إلا من أهلِ البيتِ؛ من كثرةِ دخولِهم ولزومِهم له“.
كان سيدنا عبد الله يُلبس رسولَ الله صلى الله عليه وسلم نعليه ثم يمشي أمامه بالعصا، حتى إذا أتى مجلسه نزع عبد الله نعلي رسول الله فأدخلهما في ذراعيه وأعطاه العصا، فإذا أراد رسول الله أن يقوم ألبسه نعليه، ثم يمشي بالعصا أمامه حتى يدخل الحجرة قبل رسول الله.. وكان هو الذي يوقظ النبي إذا نام ويستره إذا اغتسل.
وهو من المهاجرين الأولين هاجر الهجرتين (الهجرة الأولى إلى الحبشة والثانية إلى المدينة)، وصلى إلى القبلتين (القبلة الأولى إلى بيت المقدس والقبلة الثانية إلى الكعبة)، وشهد بدرا وأحدا والمشاهد كلها، وشهد اليرموك، وكان سادس ستة أسلموا. وبعثه عمر بن الخطاب إلى أهل الكوفة معلما ووزيرا، وكل علماء وفقهاء العراق ينتهي علمهم جميعا إلى عبد الله بن مسعود رضي الله عنه.
أول من جهر بالقرآن
وعبد الله بن مسعود هو أول من جهر بالقرآن بمكة بعد رسول الله؛ فقد اجتمع يومًا أَصحابُ رسول الله صَلَّى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سَمِعت قُرَيْش هذا القرآنَ يُجْهَرُ لَهَا به قَطّ، فمن رجلٌ يُسْمِعُهم؟ فقال عبد اللّه بن مسعود: أَنَا، فقالوا: إِنا نخشاهم عليك، إِنما نريد رجلًا له عشيرةٌ تمنعه من القوم إِن أَرادوه! فقال: دَعُونِي، فإِن الله سيمنعني!!
فغدا عبد اللّه حتى أَتى مقام إبراهيم عند الكعبة في الضحَى، فقام رافعًا صوته بآيات من سورة الرحمن: {الرحمن * علم القرآن * خلق الإنسان}، واستمر يقرأ وكفار قريش يقولون: ما يقول ابن أُم عبد؟ ثم قالوا: إِنه ليتلو بعض ما جاءَ به محمد! فقاموا فجعلوا يضربون في وجهه، ثم انصرف إِلى أَصحابه وقد أَثَّروا بوجهه. فقالوا: هذا الذي خشينا عليك! فقال: “ما كان أَعداءُ الله قط أَهونَ عليَّ منهم الآن، ولئن شئتم جئتهم بمثلها غدًا؟” قالوا: حَسْبُك، قد أَسمعتهم ما يكرهون.
وكان سيدنا عبد الله بن مسعود قصيرا نحيفا، يكاد طوال الرجال يوازونه جلوسا وهو قائم!! حتى إنه صعد يوما شجرة فنظر الناس إلى دقة ساقيه.. وضحكوا فقال -صلى الله عليه وسلم-: “أتعجبون من دِقَّةِ ساقَيْه! والَّذي نفسي بيدِه لهما في الميزانِ أثقلُ من جبل أُحُد“.
وهو صاحب القصة المشهورة التي رواه هو فقال: كُنْتُ أَرْعَى غَنَمًا لِعُقْبَةَ بْنِ أَبِي مُعَيْطٍ فَمَرَّ بِي رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- وَأَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: “يَا غُلَامُ هَلْ مِنْ لَبَنٍ؟” قَالَ: قُلْتُ: نَعَمْ، وَلَكِنِّي مُؤْتَمَنٌ. فقال: آتني بشاة لم تُدِر لبناً بعدُ، فجئته بعنزة صغيرة فأمسكها رسول الله فَمَسَحَ ضَرْعَهَا فَنَزَلَ لَبَنٌ، فَحَلَبَهُ فِي إِنَاءٍ، فَشَرِبَ، وَسَقَى أَبَا بَكْرٍ، ثُمَّ قَالَ لِلضَّرْعِ: “اقْلِصْ” أي ارجع كما كنت، فرجع كما كان قبل حلْبِه. فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ عَلِّمْنِي مِنْ هَذَا الْقَوْلِ الذي يجعلك تنزل اللبن من شاة صغيرة لم تدر لبنا بعد، قَالَ: فَمَسَحَ رَأْسِي وَقَالَ: “يَرْحَمُكَ اللَّهُ إنك غلام مُعَلَّمٌ“.
وفى ظني أن سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم له في بداية القصة كان نوعا من الاختبار لأمانته، بدليل ثناء الرسول عليه آخر القصة، فمن يطبق مبدأ الأمانة بهذه الصورة فهو لا شك إنسان عنده علم من لدن العليم الخبير.
وأدق وصف لسيدنا ابن مسعود أنه الرجل القرآني. يقول الإمام علي رضي الله عنه: أول من حفظ كتاب الله عن ظهر قلب: عبد الله بن مسعود. وهو أحد الأربعة من القراء الذي قال فيهم النبي صلى الله عليه وسلم: “اسْتَقْرِئُوا الْقُرْآنَ مِنْ أَرْبَعَةٍ: مِنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ – فَبَدَأَ بِهِ- وَسَالِمٍ مَوْلَى أَبِي حُذَيْفَةَ، وَأُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، وَمُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ” (صحيح البخاري). والإشارة في نص هذه الرواية إلى أنه “بدأ به” لها مغزى واضح لقيمة سيدنا عبد الله رضي الله عنه.
ولحسن وحلاوة قراءته كان النبي صلى الله عليه وسلم يطلب منه أن يقرأ عليه القرآن. قال عبد الله بن مسعود: قال لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم يوما: “اقْرَأْ عَلَيَّ”. قلت: أقرأ عليك وعليك أنزل؟ قال: “فَإِنِّي أُحِبُّ أَنْ أَسْمَعَهُ مِنْ غَيْرِي”. فقرأت عليه سورة النساء حتى بلغت قوله تعالى: {فكيف إذا جئنا من كل أمة بشهيد وجئنا بك على هؤلاء شهيدا}؛ فقال: حسبك. يقول ابن مسعود: “فنظرت فإذا عينا رسول الله تذرفان بالدموع”.
مقام ومنزلة
إن مقام ومنزلة وسابقة عبد الله بن مسعود في الإسلام تجعل أمير المؤمنين عمر يتابع له بنفسه بناء بيته، فلما أراد عبد الله بن مسعود أن يبني دارا بالمدينة جعل عمر ينوب عنه في بنائها فقال رجل من قريش لعمر: إنك كفؤ لهذا؟، هل يعقل أن تساوي نفسك بابن أم عبد؟ فأخذ عمر طوبة فرماه بها وقال: أتمنعني أن أساعد عبد الله.
ولم تُخرج السلطة عبدَ الله بن مسعود على طبيعته السمحة وكره التسلط على العباد.. ومن ذلك أن رجلا من أهل الكوفة جاء بابن أخيه اليتيم وهو سكران إلى عبد الله بن مسعود، فأمر ابن مسعود بضربه وقال للجلاد: اضربه ضربا غير مبرح. وبعد أن ضربه التفت ابن مسعود إلى الرجل الذي جاء به إليه وقال: بئس لعمرو الله والي اليتيم أنت.. ما أحسنت التربية ولا سترته إذ أخطأ، إن الله غفور يحب الغفران.
فهذا الرجل أخطأ أولا حين لم يحسن تربية ابن أخيه اليتيم حتى وصل الأمر بهذا الشاب أن يشرب الخمر، ثم أخطأ ثانية بأن أخذه للحاكم ليقيم عليه حد شرب الخمر، وكان يجب عليه أن ينصحه سرا ولا يفضحه، وكان يكفي هذا الشاب أن يتوب ويستغفر دون أن يخبر أحدا، وهذا هو المنهج الإسلامي في التعامل مع الذنوب الشخصية، أَمَا وقد أخذه الرجل للحاكم فلم يكن هناك بد من إقامة الحد عليه.
أمنية غالية
كان لعبد الله بن مسعود أمنية غالية حدث عنها قبل موته، وهي مرتبطة بصحابي يدعى “عبد الله ذو البجادین”، وكان قد أسلم وهو صغير في حجر عمه الثري، فهدده (عمه) إن أسلم أن يحرمه من كل شيء، فأصر الصبي على إسلامه فجرده عمه من كل شيء حتى من ثيابه، فأتى أمه فقطعت له بجادا (الثوب المخطط الغليظ) نصفين فلبسهما وستر نفسه بهما، وأتى النبي صلى الله عليه وسلم فسماه رسول الله “عبد الله ذو البجادين”، وكان يلزم باب النبي ويرفع صوته بالذكر كَانَ أَوَّاهًا (شديد الخشية من الله).
فخرج ذو البجادين مع رسول الله في غزوة تبوك ومات أثناء السفر. وهنا يحدثنا عبد الله بن مسعود بقية القصة فيقول: وَاللهِ لَكَأَنِّي أَرَى رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وقد نزل فِي قَبْرِ عَبْدِ اللهِ ذِي الْبِجَادَيْنِ، ثم قال لأبي بَكْرٍ وَعُمَر: «أَدْنِيَا مِنِّي أَخَاكُمَا»، فَأَخَذَهُ منهما حَتَّى أَسْنَدَهُ فِي لَحْدِهِ، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ دَفْنِهِ اسْتَقْبَلَ الْقِبْلَةَ رَافِعًا يَدَيْهِ يَقُولُ: «اللهُمَّ إِنِّي أَمْسَيْتُ عَنْهُ رَاضِيًا فَارْضَ عَنْهُ». يقول ابن مسعود: فَوَاللهِ لَقَدْ رَأَيْتُنِي وَلَوَدِدْتُ أَنِّي مَكَانَهُ، وَلَقَدْ أَسْلَمْتُ قَبْلَهُ بِخَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً!! وكيف لا يتمنى هذه الأمنية وهي حفرة حفرها أبو بكر وعمر ونزل فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه يدعو لصاحبها؟!
ومات سيدنا عبد الله سنة 32 هـ وعمره 63 سنة ودفن بالبقيع، وكانت وصيته قبل موته: إذا أنا مت يصلي عليَّ الزبير بن العوام – وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم آخى بينهما حين قدم إلى المدينة؛ بل وأوصى أن يكون الزبير وابنه عبد الله بن الزبير في حِل أن يفعلا ما يريدان فيما يخصه بعد موته ويخص ورثته، بل وأوصى ألا تزوج امرأة من بناته إلا بعلمهما. وتلك صورة فوق العادة لأخوة صادقة أسسها رسول الله وحافظ عليها صحابته من بعده.
أخيرا، لم يكن سيدنا عبد الله بن مسعود من أبناء أيّ من بطون قريش الكبيرة، بل كان مولى لبنى زهرة، وكان -كما ذكرنا- ضعيف البنية بشكل لافت، لكنه قَلَب بعلمه الذى حصله وبصحبته الدائمة لرسول الله، وبخلقه وتواضعه، وسبقه إلى الإسلام، قلب كل موازيين الناس، فصار هذا القصير النحيف من أعلم الصحابة، وصار عمر بن الخطاب وهو مَنْ هو مكانة وشرفا، يتشرف بأنه ينوب عنه في بناء منزله، ويمنّ به على أهل العراق.
فضُعف البنية ورقة الحال وبساطة النسب لم تكن أبدا مانعا من التفوق والنبوغ والريادة، بل ولم تكن مانعا من مواجهة جبروت الظالمين، لأنه يعلم أنه لا يواجهه بجسمه وحوله وقوته، بل يواجهه بحول الله وقوته كما فعل عبد الله بن مسعود مع كفار مكة، وكفى بالله نصيرا.