كل عبادة من العبادات ينبغي أن تترك آثاراً في القلب وعلى الروح، ولكن هذا الأثر لن يحدث إلا إذا أُديت كما ينبغي، واستشعر العابد المعاني المصاحبة للأركان والفرائض والواجبات والمندوبات، وقبل ذلك أعد نفسه الإعداد اللائق للقاء الله تعالى من خلال هذه العبادة، وعبادة الحج إحدى العبادات التي يرجى -إذا أديت بطريقة صحيحة واستحضر الحاج معانيها الشريفة- أن تغير من حياته إلى الأفضل، وهذه الأسطر محاولة لبيان بعض الاستعدادات اللازمة والمعاني التي ينبغي أن نستصحبها أثناء أدائنا لمناسك الحج.
ما يتعلق بالمال؛ إذا ذكر المال والحج نستحضر اشتراط العلماء أن يكون المال الذي سنحج به من حلال، وهذا أحد أهم أسباب قبول الحج، لكن ليس هذا هو المعنى الوحيد الذي ينبغي أن نراعيه فيما يتعلق بالمال، فلا بد أن يتحلى العبد بالكرم والجود في هذه الرحلة المباركة، ويرد الأموال الحرام التي أخذها بغير حق، ويسدد الديون ويؤدي الأمانات إلى أهلها ويرد الودائع، ويوفر ما يكفي من النفقات لأهله ومن يعول حتى لا يضيعوا، وتوفير أموال تكفي نفقاته أثناء رحلة الحج وتمكنه من الصدقات والإحسان إلى رفاقه بالهدايا والمعونة لمن يحتاج منهم.
وقد وجهنا العلماء إلى هذه المعاني المتعلقة بالمال، ونلاحظ أنها لا تقتصر على الحاج فحسب، بل توجهه إلى أداء حق نفسه وحق أهله وحق صديقه وحق من يتعامل معهم، وهذه هي النظرة التي يقتضيها فهم المسلم لشمول الإسلام، وأهمية ظهور أثر العبادة على سلوك العبد، فليست العبادة علاقة تنتهي بأدائها فحسب، بل تترك بصماتها على العابد وعلى محيطه القريب والبعيد.
وينبغي له أن يرد المظالم إلى أصحابها ويسترضيهم، فإنه مقبل على سفر لا يدري أيعود منه أم لا، وهو ساع في سفره إلى محو خطاياه، ورد المظالم أحد طرق محو الخطايا، قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «مَنْ كَانَتْ لَهُ مَظْلَمَةٌ لِأَخِيهِ مِنْ عِرْضِهِ أَوْ شَيْءٍ، فَلْيَتَحَلَّلْهُ مِنْهُ اليَوْمَ، قَبْلَ أَنْ لاَ يَكُونَ دِينَارٌ وَلاَ دِرْهَمٌ، إِنْ كَانَ لَهُ عَمَلٌ صَالِحٌ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَظْلَمَتِهِ، وَإِنْ لَمْ تَكُنْ لَهُ حَسَنَاتٌ أُخِذَ مِنْ سَيِّئَاتِ صَاحِبِهِ فَحُمِلَ عَلَيْهِ» (صحيح البخاري)، وليتذكر بسفره إلى الحج سفره إلى الدار الآخرة، فكما يجهز نفسه وأوراقه المطلوبة والمال الذي سينفقه ويتأكد من وجود مكان يسكن فيه؛ فعليه أن يستعد لسفر الآخرة، وزاده الوحيد في هذا السفر العمل الصالح والتوبة من الخطايا والجمع بين الرجاء والخوف.
ومن سفر الآخرة إلى لباس الآخرة -وثياب الإحرام تذكرنا به- يتجرد المسلم في حجه من ثياب الدنيا وما فيها من زينة، وسيتجرد المسلم من زينة الدنيا بأسرها حين يقدم على ربه؛ (وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ) (الأنعام: 94)، فليتخذ المسلم من زينة الدنيا وسيلة لرضوان الله تعالى قبل أن يتركها ويحاسب عليها.
وليكن حسن ظنه بالله تعالى حاضراً، فإذا وصل إلى بيت الله الحرام رجا ألا يطرد من رحمته سبحانه وتعالى في الآخرة، وإذا نظر إلى البيت رجا أن يكون ممن قال الله تعالى فيهم: (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ (22) إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) (القيامة).
أما رفيق السفر؛ فلا شك أن الرفيق الصالح خير معين على الطاعة، وإذا ساء الرفيق ربما دفع صاحبه إلى ما لا يليق بالحاج أو حتى بالمسلم، أما بالنسبة للأصدقاء والجيران؛ فيودعهم ويسألهم الدعاء، فدعوة المسلم لأخيه بظهر الغيب مستجابة، وعليه ألا ينساهم يوم عرفة، وأثناء سفره، وكلما دعا الله تعالى، فهذا جزء من حقوقهم.
ومن بين ما ينبغي على الحاج مراعاته الدعاء بالسلامة والعافية والحفظ له ولأهله وماله وولده وأصحابه.
والتزام الأخلاق الحسنة من سخاء النفس وترك الجدال الذي يفضي إلى النزاع ويفرق بين الأحبة، ويكون الغرض منه هو إظهار النفس بمظهر العالم وإظهار الآخرين بمظهر الجهل والغباء، وهذا لا يليق بالمشاعر المقدسة ولا بالحاج ولا بالمسلم، لكن حرمة ذلك تتأكد في الحج.
ومن المعاني النفيسة والقيم الراقية التي نبه إليها علماء الإسلام وتعبر عن رحمة هذا الدين وفقه علمائنا وسعة أفقهم ورؤيتهم للحج كرحلة لتزكية النفس، يقول حجة الإسلام الإمام أبو حامد الغزالي يرحمه الله: “ألا يركب إلا زاملة (بعير عليه كساء يحمل الراكب وما يحتاجه في السفر) أما المحمل فليجتنبه إلا إذا كان يخاف على الزاملة ألا يستمسك عليها لعذر، وفيه معنيان؛ أحدهما التخفيف على البعير، فإن المحمل يؤذيه، والثاني اجتناب زي المترفين المتكبرين”، يوصي يرحمه الله الحاج ألا يؤذي البعير الذي سيوصله إلى مكة وبين المناسك بتركيب المحمل، وهو عبارة عن قطع خشبية توضع على ظهر البعير ويوضع عليها ما يجعل جلسة الراكب أكثر راحة، فأين هذه الوصية ممن يؤذون خلق الله الذين يعملون في خدمة الحجاج؛ يثقلون عليهم ويحرمونهم من قليل من الراحة، ويوجه إلى معنى سامٍ وهو البعد عن موجبات الترف، فالترف مفسد للقلوب والعقول، ومانع من استشعار الخشوع في العبادات.
ويواصل الإمام الغزالي يرحمه الله وصاياه فيما يتعلق بالمركب، فيوجه إلى الرفق بالدابة، فلا تحمّل ما لا تطيق، ولا يجلس عليها بدون حاجة، ويُنزل من عليها الأثقال لكي ترتاح، ويوصي أن يكون ذلك مرتين في اليوم، وكان بعض السلف كما ذكر الإمام الغزالي ينزل من على الدابة طلباً للمثوبة من الله تعالى، بل نقل عن أبي الدرداء قوله لبعيره عند الموت: “أيها البعير، لا تخاصمني إلى ربك، فإني لم أكن أحملك فوق طاقتك”، هذه النظرة التي تنبع من الإسلام في تقدير كل ما فيه حياة تؤكد أن هذا الدين دين العدل، حتى مع ما لا يعقل من الكائنات، ودين الرحمة كذلك.
وليعلم الحاج أن في نفقته لشراء الهدي يختار الأحسن، فالمراد تطهير النفس من الشح وتزيينها بجمال التعظيم لله تعالى والاستسلام لأمره سبحانه، حتى وإن غابت عنا الحكمة، فلله سبحانه وتعالى حكمة في كل أمر شرعي، وفي كل قضاء يقضيه المسلم يسلم لربه ويسأل الله تعالى التوفيق للفهم، أما المرتاب فلا يعمل حتى يفهم، ولن يفهم إلا إذا رضي بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد صلى الله عليه وسلم نبياً ورسولاً.
اختبر الله تعالى إيمان المؤمنين فأمرهم أن يرجموا حجراً بحجر، وأن يسعوا بين الصفا والمروة، وهما جبلان، وأن يطوفوا بالبيت الحرام وهو من حجارة، وأن يقبّلوا الحجر الأسود إن استطاعوا أو يشيروا إليه، اختبرهم بكل ذلك ليظهر كمال عبوديتهم لله تعالى، فإن النفوس أحياناً تخلط بين طاعة الله تعالى والقيام بحظ النفس، فمثلاً ينفق أناس أموالاً كثيرة لأنهم يحبون أن يمدحهم الآخرون، فهؤلاء يجب أن يتجردوا أولاً رغبة فيما عند الله ولا يعنيهم مدحهم الناس أو سكتوا عن مدحهم، أما العبادات التي ليس للنفس فيها حظ ولا نصيب فأداؤها يربي المسلم على الإخلاص لله تعالى.
في الحج العديد من المعاني السامية والقيم الراقية، استحضارها يزيد من إيمان المؤمن وقربه من الله تعالى وإصلاح نفسه، ويعينه على السير على الصراط المستقيم.