ضياع خمسمائة خطبة نبوية!
شبهة جديدة من شبهات منكري السُّنَّة، وشبهة اليوم هي ادعاؤهم بطلان تدوين السُّنة بدليل فقدان خمسمائة خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم، فكتب أحدهم مقالاً في إحدى صحفهم الصفراء بعنوان “التدوين الباطل استبعد 500 خطبة للنبي صلى الله عليه وسلم لأسباب سياسية”، وأخذ الآخرون يرددون هذه الشبهة، ويهولون من شأنها ظانين أنهم اكتشفوا معول هدم للسُّنَّة لم يعرفه من قبلهم أحد، ولقد وظف منكرو السُّنة هذه الشبهة للاستدلال على أن رواية الحديث النبوي ينبغي ألا يثق فيها أحد، فقد كان تدوينها باطلاً، بدليل أنه لم يُرو لنا خطبة واحدة من خطب النبي صلى الله عليه وسلم التي ألقاها في المسلمين؟!
بيان بطلان هذه الشبهة وتفنيدها
أولاً: ينبغي أن نقرر بأنه ليس المقصود عند منكري السُّنة إعادة النظر في الحديث النبوي للتمييز بين الصحيح وغير الصحيح من الأحاديث المدونة في كتب الحديث المعتمدة عند المسلمين، ليس هذا هو المراد، بل مرادهم هو الحكم على جميع الأحاديث بالزيف والافتراء، فقد زعم كاتبهم أن التدوين باطل أصلاً، وأنه عرف هذا البطلان من خلال فرز ثان قام به بعد الفرز الأول لعلماء الحديث رواية ودراية، ثم تمادى في وهمه، وادعى أن سبب استبعاد خطب النبي صلى الله عليه وسلم -كما يزعم- كان لأسباب سياسية نجمت في عصر تدوين الحديث، يعني عصر رجال القرن الثالث ومنهم الإمامان البخاري ومسلم ويقول: لأن تلك الخطب المستبعدة كانت ضد نظام الحكم في الدولة العباسية، فما كان من الأمراء إلا أن أغروا رواة الحديث على استبعاد تلك الخطب الخمسمائة عن التدوين!
ويعتقد منكرو السُّنَّة أنهم قد أوقعونا في حرج شديد وسدوا علينا منافذ الدفاع، ولم يدرك هؤلاء الحمقى أنهم بهذه الشبهة قد سقطوا إلى الحضيض وهم لا يعقلون.
ثانياً: أليس من حقنا أن نسأل هؤلاء: من أين أتيتم بهذه الإحصائية (500 خطبة)؟ هل قام هؤلاء بالبحث والدراسة مما نتج عنه معرفة هذا العدد؟! والواقع يؤكد أنهم ليسوا من أهل البحث ولا الدراسة، ولكن المتبادر إلى الذهن أنهم قدَّروا خطب الجمعة التي كان يلقيها النبي صلى الله عليه وسلم بالمدينة المنورة بعد الهجرة (عشر سنوات) بواقع خمسين خطبة في السنة فيكون الناتج خمسمائة.
ونريد أن نؤكد لهؤلاء أن الطريق الوحيد لمعرفتنا بسُنة رسول الله صلى الله عليه وسلم هو التدوين والرواية، فما دُون فيها هو المعروف عندنا ولا طريق لنا لمعرفة ما لم يُدون إن كان لم يُدون منها شيء، هذه حقيقة لا ينكرها أحد، ولا منكرو السُّنَّة ينكرونها بداهة، والسؤال: فمن أين إذن عرف منكرو السُّنَّة أن سبب استبعاد خطب النبي صلى الله عليه وسلم الـ500 هو أن تلك الخطب كانت تتناقض مع نظام الحكم الذي كان سائداً في عصر التدوين؟!
إنهم يدعون أن تلك الخطب لم تُدون، يعني حجبت بألفاظها ومعانيها عن رؤية النور، وقد سلمنا لكم جدلاً –بهذا الادعاء– ولكن الذي نريده منكم أن توضحوا لنا من أين، وعلى أي أساس حكمتم على الخطب التي لم تدون بأنها كانت تناهض نظام الحكم؟ هل اطلعتم عليها؟ إن كنتم اطلعتم عليها فهي إذن مدونة فتسقط دعواكم (الساقطة) بطبيعتها، وإذا لم تكونوا قد اطلعتم فمن أين عرفتم أنها كانت تتعارض مع سياسة حكام الحُقبة التي دُونت فيها السُّنَّة؟!
إنكم أيها الحمقى محاطون بالخيبة والخزي كيفما كان جوابكم على ما طرحناه عليكم من أسئلة.
“إن الحكم على الشيء فرع عن تصوره”، هذه قاعدة من قواعد العقل عند كل العقلاء، فإما أن تقروا بتدوين هذه الخطب فيسقط أصل دعواكم، وإما أن تقروا بعدم اطلاعكم عليها فيسقط سبب دعواكم فماذا أنتم قائلون؟ ألستم معنا بأن هذه فضيحة، يجب أن تعترفوا بسقوطكم فيها!
ونريد أن نؤكد هنا أن سبب وقوع هؤلاء في هذه الشبهة هو الجهل بموضوع النزاع وهو خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، فهم يقولون: إنها لم تدون بسبب رفض الأمراء لها، وطاعة العلماء لهم في هذا الرفض ونحن نقول: هذه كذبة كبرى تدل على جهلكم، وليس من حق الجاهل بأمر أن يجعل جهله هو الفاصل في حقيقة ذلك الأمر، وهذا ما وقعتم فيه، فإن جهلكم بتدوين خطب الرسول صلى الله عليه وسلم حملكم على هذا القول، وهو أن أكثر من خمسمائة خطبة نبوية لم يدونها رواة الحديث بأمر من حكام عصر التدوين، لأن تلك الخطب ضد نظام الحكم الذي كان سائداً في عصر التدوين، وهذا ادعاء كاذب بكل تصوراته، فقد شمل التدوين الأمين خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم منذ جُمعت السُّنَّة مع مطلع القرن الثاني الهجري.
ولها الآن وجودان:
الأول: تدوين خطب النبي صلى الله عليه وسلم تدوينا مفرقاً ومبثوثاً في كتب الحديث والسيرة والتاريخ، وبعض كتب الإعجاز القرآني، وهذا هو المصدر الأول للوقوف على خطبه صلى الله عليه وسلم.
الثاني: في العصر الحديث قام اثنان من علماء تونس بجمع خطب النبي صلى الله عليه وسلم في مصنفين متداولين.
الأول: للشيخ محمد خليل الخطيب بعنوان “إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام”(1).
والثاني: “خطب الرسول صلى الله عليه وسلم” للدكتور عمر القطيطي التونسي(2)، وقد حرص على جمع تلك الخطب، وتوثيقها علمياً ببيان المراجع التي ذكرتها، وحققها تحقيقاً ممتازاً، وقام بتبويبها تبويباً فنياً منتظماً. ثم وضع عليها دراسة فقهية وبلاغية لم يسبقه إليها أحد، وتقع في أكثر من ستين ومائتي صفحة من القطع المتوسط، ولم يقتصر على جمع خطب الجمعة، بل شمل عمله الخطب التي قالها رسول الله صلى الله عليه وسلم في المناسبات المختلفة كالعيدين، والخسوف والكسوف(3).
فماذا يقول هؤلاء بعد هذه الحقائق الناصعة(4)؟
_____________________________________
(1) كتاب “إتحاف الأنام بخطب رسول الإسلام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام”، المؤلف: محمد خليل الخطيب، الناشر: مطبعة الشعراوي، طنطا، مصر، تاريخ النشر: 1373هـ/ 1954م، عدد المجلدات: 1.
(2) “خطب الرسول صلى الله عليه وسلم: جمعها وتبويبها ودراستها”، رسالة جامعية للدكتور عمر القطيطي التونسي.
(3) يوجد الآن الكثير من الكتب التي تتحدث عن خطب الرسول صلى الله عليه وسلم، من هذه الكتب:
– “خُطب النبي صلى الله عليه وسلم، لعلي بن محمد المدائني (ت224هـ).
– “خُطب النبي صلى الله عليه وسلم”، لأبي أحمد العسّال (ت 349هـ).
-“خُطب النبي صلى الله عليه وسلم”، لأبي الشيخ الأصبهاني (ت369هـ).
– “خُطب النبي صلى الله عليه وسلم”، لأبي نُعيم الأصبهاني (ت430هـ).
– “خُطب النبي صلى الله عليه وسلم”، لأبي العباس جعفر بن محمد المستغفري (ت432هـ)
– “موعظة الحبيب وتحفة الخطيب”، لعلي القاري الحنفي (ت1014هـ).
– “الخُطب المأثورة”، لأشرف علي التهانوي (ت1362هـ).
(4) أصل هذه الشبهات من كتاب “هذا بيان للناس.. الشبهات الثلاثون المثارة لإنكار السنة النبوية”، د. عبدالعظيم المطعني – مكتبة وهبة، طبعة 1420هـ/ 1999م.