هناك علاقة وثيقة بين السياسة والأدب، فالكاتب سياسي في كل ما يكتب، حتى لو بدا الموضوع خارج السياسة، وهو عادة لا يمارس السياسة على الأرض. ولا يسعى إلى منصب أو وظيفة تجعله صاحب قرار يؤثر في حياة الناس. إنه صاحب رؤية قد تصيب وقد تخيب، ولكنه يعتقد أنها تخدم قومه وشعبه وأمته، وهناك مقولة شهيرة تتردد كثيرا للروائى السويسرى جوتفريد كيلر «كل شىء سياسة»،. فكل ما يحدث في المجتمع من أفعال أو ردود أفعال أو صراعات بين المواطنين والسلطة، يرتبط بالسياسة، بطريقة مباشرة أو غير مباشرة، ومعلوم أن الكتابة هي الوعاء الذي يحوي الأفكار والعواطف والانفعالات تجاه قضايا المجتمع بالتأييد أو الرفض، ومن هنا تبدو أهمية الكتابة الأدبية خاصة حين تضيق آفاق الحركة والعمل في المجتمعات المقموعة.
فكرة الحرية
والرواية في زمننا تبدو الوعاء الأوسع للتعبير عن خيبات الشعوب وتطلعاتها، كما تعدّ تعبيرا رمزيا أو تحمل نسقا مضمرا- كما يسميه بعضهم- تجاه العالم الخارجي للكاتب. ويضمّ التراث الروائي العالمي ( الروسي والإنجليزي والفرنسي خاصة ) أبرز الروايات التي تعالج فكرة الحرية، وتجلياتها، والإشادة بأبطالها في مختلف الأماكن والحوادث، مع الفروق الأدبية والقيمية بين كاتب وآخر. وقد شارك أدبنا الحديث بنصيب ليس هينا في مجال الكتابة التي تقاوم الاحتلال الأجنبي والقهر الاستبدادي، سواء بعرض الأحداث الواقعية، أو من خلال استدعاء التاريخ.
خسارة مؤلمة
وليس هنا مجال استعراض الروايات التي عبرت عن كفاح العرب والمسلمين، من أجل التخلص من قبضة الاحتلال أو قهر الاستبداد، سعيا للحرية والمشاركة في اتخاذ القرارات المصيرية التي تهم البلاد والعباد. فهناك كثير من الدراسات والمقالات التي فصلت ذلك. لقد جعل الاحتلال أو الاستبداد من يفكر في الحرية أو الشورى أو الكرامة الإنسانية في بلاد العرب والعالم، غير صالح للحياة الطبيعية، ومصيره القمع أو التغييب، أو الإلقاء في المعتقلات والسجون، مع ما يصاحب ذلك من تعذيب ومعاناة، وهو ما يساعد على إفراز عناصر يائسة فاقدة للأمل، ترى أن الحياة لا قيمة لها، فتندفع إلى تصرفات عنيفة هوجاء، تكون عواقبها عادة خسارة مؤلمة للأطراف جميعا.
ولعل أقرب الأسباب لدوافع العنف والدم ما يجري في السجون أو المعتقلات لبعض العناصر الغاضبة أو المعارضة أو غير المؤيدة أو الموجهة طائفيا أو عرقيا أو مذهبيا؛ من تعذيب بشع لا يُكتفي فيه بالأدوات البدائية بل تُستخدم أحدث المخترعات المميتة أيضا، فضلا عن الممارسات المتجاوزة للقانون بصفة عامة من أجهزة تنفيذ القانون وحفظ النظام!
جهاد الأفغان
وهناك أحداث عالمية وإقليمية جعلت من العنف قضية مشتعلة على مدى عقود ثلاثة أو أكثر، ولعل أبرزها ما ارتبط بجهاد الأفغان للغزو السوفياتي بعد انقلاب 1979 الذي وصل بالشيوعيين إلى الحكم في كابول، فقد تنادى العالم الإسلامي حينها بضرورة دعم المجاهدين بالمال والسلاح والرجال، ودعّم الغرب بقيادة الأميركان المجاهدين الأفغان من أجل استنزاف السوفيات وهزيمتهم، وذهب كثير من الشباب العربي إلى أفغانستان، وحاربوا مع المجاهدين حتى انتهى الاحتلال السوفياتي وسحب قواته، وانهار الحكم الشيوعي الأفغاني، وهنا ظهرت مشكلة العائدين من أفغانستان، وبدلا من احتوائهم فإن قوى الاستعمار والاستبداد، شيطنتهم ووصمتهم بالإرهاب، وكانت المطاردات والدعاية التي جعلت كل مسلم إرهابيا حتى يثبت العكس! وخاصة بعد تفجير برجي التجارة في نيويورك 11/9/2001، وأقامت أميركا معسكر جوانتنامو االذي وضعت فيه عشرات أو مئات من الذين كانوا في أفغانستان أو زاروها ولو لم تكن لهم علاقة بالجهاد أو الحرب أو حوادث عنف، ومازال المعسكر قائما حتى كتابة هذه السطور (9/2022)!
حرب أوكرانيا
ومن المفارقات أن الدعوة لاستيراد مقاتلين متطوعين للمشاركة في الحرب ضد روسيا التي دخلت بقواتها إلى أوكرانيا في 26/2/2022 تكررت مرة أخرى، وسط تشجيع دولي من القوى الكبرى، وقيل إن أعدادا غير قليلة من البلاد العربية والإسلامية غادرت إلى أوكرانيا بالفعل، وفي المقابل دعت روسيا متطوعين من الدول الإسلامية التي تخضع لنفوذها العسكري والسياسي (الشيشان وسورية وليبيا مثلا) ليقاتلوا في صفوف الجيش الروسي، مع منح من يقاتل لمدة عام الجنسية الروسية، ولا أحد يدري ماذا سيحدث بعد أن تتوقف الحرب لهؤلاء المتطوعين، وهل ستتم شيطنتهم ووضعهم على قوائم الإرهاب أيضا، أو تحويلهم للعمل في جبهات أخرى؟
فرصة ذهبية
لقد شاع العنف على تفاوت في البلاد العربية لأسباب شتى، وهي أسباب فسرها المتخصّصون تفسيرات مختلفة، واهتم بها الأدباء الذين كتبوا كثيرا من الروايات في أرجاء المدن العربية تسجل شهاداتهم على أحداث العنف، كل بطريقته، وسوف نرى أن معظم من كتبوا هذه الروايات كانوا من أنصار الاستبداد أو الموالين للغرب، الذين وجدوا في الإرهاب فرصة ذهبية للتشهير بالإسلام والمسلمين، دون أن يعالجوا المشكلة الأساسية وهي الإرهاب، أو يقدموا شهادات عادلة حول الأحداث الإرهابية، وبعضهم اتخذ من حوادث فردية وسيلة لإدانة المسلمين جميعا، كما نرى في الكتابات التي تناولت حوادث فرج فودة، ونجيب محفوظ والكاتب الجزائري طاهر جعوط!
وقد خصصت مجلة “ذوات” الثقافية العربية الشهرية الإلكترونية، الصادرة عن مؤسسة “مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث”- وهي مؤسسة معادية للإسلام في حقيقة الأمر من خلال المواد التي تنشرها وتتبناها ضمنا- جزءا كبيرا من عددها 38- (10يوليو 2017)، لموضوع “الرواية العربية في مواجهة التطرف”، وقدم له الكاتب المغربي عبد المالك أشهبون بمقال عنوانه “ظاهرة التطرف الديني في الرواية العربية”.
معاناة المسيحيين!
وفي الموضوع كتب العراقي نجم عبد الله كاظم، مقالا بعنوان: “التطرف الديني والإرهاب في الرواية العربية المعاصرة…”، تناول فيه الموضوع من خلال رواية “يا مريم” للروائي العراقي سنان أنطون (منشورات الجمل، بغداد، 2012)، التي تتحدث عما تسميه معاناة المسيحيين وما لحقهم من أذى في عراق عام 2003 وما بعده، وبالطبع فإن الرواية لا تتحدث عن المعاناة الكبرى للعراقيين جميعا بسبب الغزو الأميركي وحلفائه الغربيين المسيحيين، فقد دمر العراق ومدنها وقتل مئات الألوف ورمل ويتم وجرح الملايين من العراقيين المسلمين، وأشعل الفتنة المذهبية بنار لم تخمد حتى اليوم.. تعرض الرواية ماجرى لعائلة مسيحية تمزقت أفراداً بفعل الكراهية والخوف والعنف والتهديد والقتل وسوء التعامل، على أيدي من تسميهم إسلاميين متطرّفين!
وتناول الناقد المغربي حسن المودن،”شخصيةُ “الإرهابي”: “عقدة أوديب” أم “عقدة الأخوة؟”، في رواية “خريف العصافير” للروائي المغربي خالد أقلعي (منشورات بيت باب الحكمة، تطوان، 2013)، من خلال التنقيب في أغوار شخصية “الإرهابي” التي قدمتها الرواية، مركزا على عقدتي: “أوديب” و”الأخوة” في أكثر من مقطع من مقاطع الرواية، وينتصر في النهاية “لعقدة الأخوة”.
الإرهاب الديني!
وناقشت الكاتبة الأردنية مريم جبر، “تمظهرات الإرهاب الديني في الرواية العربية.”، لدى الروائي الأردني جلال برجس، في روايته “أفاعي النار”(كتارا، الدوحة، 2016)، ومفهوم الإرهاب الديني(..)، وأسبابه وبيئته وتجلياته، وآثار توظيفه في تحقيق المآرب الخاصة والعامة في مجتمع الرواية، بوصفه نموذجا صغيرا من عالم كبير، يمور بهذه الظاهرة، إلى حدّ تصير فيه الرغبة في تغيير هذا الواقع حلماً عسير التحقق، بل تغدو عواقبه وخيمة.
وحلل الناقد التونسي عبد الدائم السلامي، رواية الإرهاب من وجهة نظره فيما سماه “روايةٌ تكتُبُ الإرهابَ بِيَدٍ مُرْتعِشةٍ”، فأشار إلى الرواية العالمية ثم العربية، وبعدها التونسية حيث توقف عند روايتيْن يرى فيهما مستوى فنيا عاليا في تفسير مسألة الإرهاب، دون طرح الحلول والعلاج، أُولاهما بعنوان: “غِلالات بين أنامل غليظة” للكاتبة عفيفة سعودي السّميطي(دار البدوي للنشر- تونس، 2014)، وثانيتُهما “أرصفة الضَّباب أو الطريق إلى داعش” للكاتبة منيرة درعاوي. (مطبعة الثقافية. المنستير(تونس) – 2017 ).
الانسجام بين الخطاب والنص
وتضمن عدد “ذوات” المشار إليه، حوارا مع الناقد المغربي سعيد يقطين، ركز على نقطة جوهرية تتمثل في أن الوعي بقضايا التطرف الديني على المستوى الروائي لا يتشكل فقط من خلال المحتويات التي يمكن أن يعبر عنها مهما كانت صدقيتها أو واقعيتها؛ لأنها أحيانا تسلم إلى المباشرة والسطحية، وإعلان المواقف، وأشار إلى أن الطريقة التي يمكن بواسطتها الحصول على التأثير في المتلقي. ومن منظوره، لا تتحقق على النحو الملائم إلا بقدرة الكاتب على جعل عالمه الروائي منسجما بين الخطاب والنص، ويقدم للقارئ معرفة تتجاوز المعرفة اليومية المتداولة في وسائل الإعلام المختلفة.