تعتبر شخصية السلطان الزنكي نور الدين محمود (511 – 569ه) من الشخصيات العظيمة في تاريخ الأمة الإسلامية، فقد سار على طريق الخلفاء الراشدين ونهج الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز في تطبيق العدل والإنصاف، واستطاع أن يقود مشروعاً نهضوياً للتصدي للفكر الباطني والمشروع الصليبي الغازي، وقدمت دولته نموذجاً في مقارعة الغزاة؛ اعتمد على الله عز وجل، والمرجعية الحضارية لأمة الإسلام.
كما اتصف نور الدين زنكي بصفات القيادة الربانية في العِلم والذكاء والشعور بالمسؤولية، ومخافة الله، وخدمة الناس، وإقامة المؤسسات الاجتماعية والدينية والسياسية والعسكرية والخدمية، ورفع راية أهل السُّنة في مفهومها العظيم، فدعم المدارس الفقهية التقليدية الشافعية والمالكية والحنفية والحنابلة، والتصوف السُّني، والأشاعرة، والمدارس السلفية، وذلك في سبيل التصدي للمخاطر الداخلية والخارجية، فكان من ثمار جهوده العظيمة تحرير مصر من هيمنة الدولة الفاطمية، ووضع أسس تحرير بيت المقدس من الصليبيين، وتم تحريرها في عهد خلفه وتلميذه القائد الإسلامي صلاح الدين الأيوبي، والذي يعتبر أحد تلاميذه النجباء. وتعتبر سيرة نور الدين محمود زنكي مدرسةً ملهمةً لقادة الشعوب والأمم. ونستخرج من سجلات تاريخيه دوره في مواجهة الأزمات والكوارث التي نزلت بالعباد والبلاد في أيام حكمه.
ولقد كان تحرك السلطان نور الدين محمود زنكي (رحمه الله)، وفق سنن الله في دفع أقدار الله بأقدار الله، فحين كان القدر الإلهي في الابتلاء بالزلزال دفعه زنكي باتباع منهج الاستخلاف في البناء والتعمير، وترميم المساجد، والأماكن العامة في المناطق المنكوبة، ومساعدة المحتاجين والفقراء والمبتلين والمتضررين في زمانه، وهو ما شهدناه بعد زلزال تركيا المدمر الذي وقع يوم الاثنين في 15 رجب 1444ه/ 6 فبراير2023م، حين حضر الرئيس التركي رجب طيب أردوغان وأركان دولته وطواقم حكومته بكل تخصصاتها، وذلك منذ اليوم الأول بين المواطنين المتضررين من أبناء شعبه في المناطق التي ضربها الزلزال في جنوبي تركيا؛ يضمدون الجراح، وينقذون الناس من تحت الأنقاض، ويحاولون تخفيف المخاطر والآثار التي خلّفها الزلزال، وبالتالي تجاوز هذا المصاب.
أولاً: تجربة نور الدين الزنكي الناجحة في إدارة الكوارث والأزمات
قرأنا في كتب التاريخ والحضارة الإسلامية عن تجارب ناجحة، وأمثلة رائعة يضرب بها المثل، لقادة كبار حملوا رسالة التكليف وكان لهم دورهم في مواجهة الأزمات والكوارث الطبيعية، ومن هؤلاء القادة البارزين، السلطان العادل والقائدُ الكبير نور الدين محمود زنكي (سلطان العراق ومصر والشام).
اعتمد نور الدين محمود زنكي على الحلول العقلية ذات الطابع العلمي في مواجهة المشاكل والأحداث، واضعاً عينيه على التعامل مع سنة الأخذ بالأسباب. ففي عام 552هـ شهدت المناطق الوسطى والشمالية في بلاد الشام زلازلاً عنيفةً، تتابعت ضرباتها القاسية، فخرَّبت الكثير من القرى والمدن والمزارع والحصون، وأهلكت حشداً لا يُحصى من الناس، وتهدمت الأسوار والدور والقلاع، فما كان من السلطان نور الدين إلاَّ أن شمَّر عن ساعد الجدِّ، وبذل جهوداً عظيمةً في إعادة إعمار ما تهدم وتعزيز دفاعاته. فعادت البلاد كأحسن مما كانت، ولولا أن الله منَّ على المسلمين بنور الدين، فجمع العساكر، وحفظ البلاد؛ لكان دخلها الفرنج بغير قتال ولا حصار (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).
وفي عام 565ه، ضُرِبَتْ مناطق الشام موجة أخرى من الزلازل، لم تقلَّ هولاً عن سابقتها، خرَّبت الكثير من المدن، وهدمت أسوارها وقلاعها، وسقطت الدور على أهلها، وهلك منهم ما يخرج عن الحدِّ والإحصاء، فلما بلغ الخبر نور الدين سار إلى بعلبك، لإعادة إعمار ما تهدَّم من أسوارها وقلعتها، ولم يجأر إلى الله بالشكوى، ويعلن أن الظلم قد فشا، وإن هذا عقاب الله فقط، أو إنه إشارات الساعة، وأنها قد لاحت في الأفق القريب، وإنما دعا الله تعالى أن يُعينه على تأدية الواجب في خدمة عباده المستضعفين والمكلومين، وإعادة الإعمار في الأرض، وتنفيذ المهام المنوطة به كحاكم بين الناس بعد التوكل على الله، وبهمة وعزيمة وإرادة صلبة.
وعندما وصل نور الدين (رحمه الله) مدينة بعلبك أتاه خبر دمار باقي البلاد، وهلاك كثير من أهليها، فرتَّب في بعلبك من يحميها ويعمرها، وانطلق إلى حمص ففعل مثل ذلك، ومنها إلى حماة، فبعرين.
وكان شديد الحذر على سائر البلاد من الفرنج، لا سيما قلعة بعرين فإنها مع قربها منهم لم يبق من سورها شيء البتة، فجعل فيها طائفة صالحة من العسكر مع أمير كبير، ووكل بالعمارة من يحث عليها ليلاً ونهاراً. ثم أتى مدينة حلب، فلما شاهد ما صنعته الزلازل بها، وبأهلها؛ أقام فيها وباشر عمارتها بنفسه، وكان هو يقف على استعمال الفعلة والبنائين، ولم يزل كذلك حتى أحكم أسوار جميع البلاد، وجوامعها، وأخرج من المال ما لا يقدَّر قدره (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).
إنَّ الكوارث، التي يبتلي الله بها عباده، تأتي بمثابة تحديات دائمة، تستفز الجماعات البشرية وقياداتها إلى المزيد من الوعي والإنجاز، وإن الاستجابة لهذه التحديات هي التي تقود الأمم والتجارب السياسية والحضارات خطوات إلى الأمام. والعجز عنها هو الذي يربك مسيرتها، ويصيبها بالعجز والشلل والجمود، أما نور الدين فقد اختار الموقف الأول، وأعاد إعمار ما هدمته الكوارث بسرعة مدهشة، وواصل الطريق (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020).
ثمة حادثة أخرى ذات دلالة واضحة في هذا المجال؛ كانت في الموصل خرابة واسعة في وسط البلد أشيع عنها: أنه ما شرع أحدٌ في عمارتها إلاَّ من ذهب عمره؛ ولم يتم على مراد أمره. فأشار الشيخ عمر الملاء أحد صالحي المدينة، وشيوخها الورعين بابتياعها، وبناء جامع كبير فيها، تقام فيه الصلوات، وتخطب الجمع، وتدرس العلوم، ففعل نور الدين، وأنفق فيه أموالاً كثيرةً.
وعلَّق الدكتور عماد الدين صاحب كتاب (نور الدين محمود الرجل والتجربة) على هذه الحادثة، فقال: «لم يضرب نور الدين الخرافة، والشائعة بالكلمة، ولكنه ضربها بالفعل، وبالإنجاز، وزالت الخرافة»، ولكن المسجد الكبير الذي بناه على أنقاضها ظلَّ حتى اليوم يستقبل مئات المتعبدين والدارسين (خليل، نور الدين الرجل والتجربة، 2020)
ثانياً: قيادة الطيب أردوغان وحنكته في مواجهة آثار الزلزال المدمر
أصاب الزلزال المدمر مناطق واسعة في جنوب تركيا وشمال سورية، بقوة زلزالية عالية قُدرت بـ 7.8 على مقياس ريختر، بالإضافة إلى أكثر من 6500 هزة ارتدادية بمعدل هزة كل 3 إلى 5 دقائق منذ وقوع الزلزال الأول؛ خلفت عشرات الآلاف من القتلى والجرحى، والملايين ممن تعرضت بيوتهم لدمار وخراب كبيرين. واللافت أن هذه المناطق المنكوبة تقع ضمن نطاق ما يُعرف بـــ “فالق شرق الأناضول”، وهي منطقة حدود تكتونية بين صفيحتين من صفائح القشرة الأرضية هما؛ صفيحة الأناضول والصفيحة العربية (أيوب، منتديات الجزيرة، 2023).
ووسط هذه الأهوال والمصاب الكبير، شاهد العالم الحضور الكبير والاستجابة الفورية من الحكومة التركية التي استجابت لنداء سكان الولايات التركية الذين أصيبوا بهذه الكارثة الكبيرة، فصرح الرئيس أردوغان فجر الاثنين يوم الزلزال أنّ كافة الوحدات المعنية التابعة للدولة في حالة تأهب قصوى براً وبحراً وجواً، وبدأت بأداء مهامها وعملها تحت إشراف إدارة الكوارث والطوارئ التركية (آفاد)، وأوضح أنّ وزارتي الصحة والداخلية وإدارة الكوارث (آفاد)، وإدارات الولايات وكافة المؤسسات الأخرى، بدأت أعمالها على وجه السرعة. وأعلن على الفور حالة الطوارئ القصوى التي تستدعي المساعدة الإنسانية الدولية، وبدأ الدعم يتوافد من عشرات الدول بما فيها خصوم تركيا اليونانيين والأرمن وغيرهم.
وخلال الأسبوعين الماضيين، وبإشراف غرفة عمليات القيادة العليا في الدولة التركية التي يرأسها الطيب أردوغان، كانت جهود الإغاثة ورفع الأنقاض وجسور الإغاثة ونقل المصابين، والطواقم الإسعافية الطبية، والفرق العسكرية، وخبراء الكوارث يتابعون ويبحثون ضمن دائرة الزلزال ويحاولون إنقاذ أكبر عدد من الناجين من تحت الأنقاض، وتقديم العون الفوري للمتضررين من رعاية طبية ومواد غذائية، وتأمين أماكن إيواء مؤقتة لهم. ولم تخل هذه المرحلة من صعوبات لوجستية بفعل الحجم الكبير للأضرار والاحتياجات الإنسانية الكبيرة والظروف الطبيعية السيئة التي عقّدت جهود الإغاثة، لكنّ المرحلة الثانية من الاستجابة كانت محورية وحاسمة في جهود التعافي السريع والانتقال لمرحلة التحكم بالأزمة إلى حد كبير.
وبتصريحات ميدانية يومية من مناطق الزلزال في كهرمان ماراش وأورفا وأضنة وعينتاب وأنطاكيا والعثمانية وملاطيه وألازيغ، كان يعلن الرئيس الطيب أردوغان بأن تركيا ستتجاوز كارثة الزلزال في أسرع وقت، وأعلن عن عملية البدء بخطط إعمار المدن المتضررة، وخطط التعويض والدعم المادي للمواطنين المتضررين، فصرَّح بأنّ الحكومة ستشرع ببناء بيوتٍ لنحو 270 ألف أسرة في المدن والأرياف في 11 ولاية متضررة من كارثة الزلزال بداية من مارس 2023م. وذكر في تصريحات له عقب تفقّده مدينة منازل مسبقة الصنع لإيواء المتضررين من الزلزال بولاية غازي عنتاب في جنوب البلاد، كما أشار إلى أنه سيتم بناء تسعة آلاف منزلاً ريفياً مع ملحقاتها في قرى غازي عنتاب، وبأنه سيتم إعادة تحديد الأرقام بدقة متناهية ومتابعة مستمرة، خلال الأشهر المقبلة، بحسب التقييمات في جميع الولايات التي تعرضت للزلزال.
وللطيب أردوغان في مسيرته السياسية الحافلة، وقيادته المتميزة بالتعامل مع الكوارث والأزمات السياسية والأمنية والطبيعية، والتعافي منها، بتوفيق الله وفضله، تاريخ حافل بالإنجازات والمآثر. ومع أن الكارثة الأخيرة تعد أكبر تحدٍ لحكومته وإدارته من حيث الخسائر البشرية وأضرارها المادية وتداعياتها الصحية والنفسية والأمنية، والتي طالت مساحة تقدر ب 500 كيلو متر مربع، وهي تشكل نحو 10% من الناتج الإجمالي المحلي، كما أن ما يقرب من 20 مليون شخص تضرروا من الزلزال، ولكنها في الوقت نفسه كشفت حقيقة الجهود والتنظيم والمتابعة من شخص الرئيس الطيب أردوغان نفسه، وقد تكاتفت وراءه جهود شعبية ومؤسساتية وطواقم وطنية بكل عناصرها، وقدمت ولا تزال تقدم عملاً نوعياً لن ينساه التاريخ التركي والتاريخ الإنساني المعاصر. كما أن اللافت هو حجم التضامن والتعبئة الهائلة للشعب التركي، والذي أظهر أمثلة من التضحية والتضامن والوحدة في ظل هذه الظروف الحالية الحرجة، مسانداً لحكومته في هذا المصاب الوطني الكبير.
ليس جديداً على القيادة التركية، وعلى رأسها الطيب أردوغان هذا الجهد والتنظيم والتخطيط في تجاوز تبعات الزلزال الكارثية، فالتجارب التي خاضتها تركيا كبيرة في مد يد العون للشعوب المصابة، فلم تتوقف حملات المساعدة للحكومة وللشعب التركي في مراحل الحروب والكوارث التي عاشتها البوسنة وفلسطين والصومال واليمن والسودان وليبيا وباكستان وكشمير واليابان وهايتي وأمريكا وسورية طيلة السنوات الماضية.
إن النماذج الناجحة في قيادة الشعوب بحكمة وحيوية وهمة وتخطيط وإيمان مثلتها شخصية السلطان نور الدين محمود زنكي في زمانه، والرئيس الطيب أردوغان في الوقت الراهن، وهو المعروف عند الشعب التركي وشعوب العالم وحكوماتها، بأنه إذا وعد وفى، ونال احترام شعبه وشعوب العالم بمواقفه الإنسانية وجرأته النادرة، وإقدامه في قول الحق، ووفائه بوعوده، واكتسب مصداقيته بأفعاله ومواقفه لا بأقواله وتصريحاته فحسب، مع إيمانه العميق بأقدار الله، وهمته العالية في الأخذ بأسباب البناء والتمكين، وهذه لها كانت أسباب كفيلة في تخفيف الآثار، وتوفير الأمن والأمان، وهذا ما نتمناه لتركيا وسورية وجميع بلاد المسلمين التي تعيش الضيق والمصاب، بأن يتلطف الله بها، ويحفظ أهلها، ويرحم موتاهم، ويُعافي جريحهم، ويَجبر كسرهم، ويُفرج كربهم. إنه ولي ذلك والقادر عليه.
المراجع:
- علي محمّد الصلابي، القائد المجاهد نور الدين محمود زنكي؛ شخصيته وعصره، مؤسسة اقرأ، ط1، 2007م.
- عماد الدين خليل، نور الدين محمود الرجل والتجربة، 2020م، ص 110-112.
- محمد شعبان أيوب، “أسقطت دولا ودمرت مدنا.. أكثر من 100 زلزال كارثي رصدها المؤرخون في تركيا والشام”، منتديات الجزيرة، 2023.
- محمد علوش، “كيف لتركيا التعافي سريعاً من الزلزال”، منتديات الجزيرة، 2023م.
- محمود علوش، “حسابات الداخل والخارج في انتخابات تركيا”، منتديات الجزيرة، 2023م.
- ياسين أقطاي، “تعبئة القرن للإنقاذ والإغاثة في كارثة القرن”، منتديات الجزيرة، 20239م.