“البيت الإبراهيمي” هذا ما حذَّرت منه مجلة “المجتمع” على صفحاتها في العدد: 2148 بتاريخ: صفر 1442ه – أكتوبر 2020م، حيث نشرت موضوعاً وافياً على صفحتين بيَّنت فيه حكم ما يسمى (وحدة الأديان) في ميزان الشرع وأكدت أن هذه دعوة مرفوضة لأنها تخلط الحق بالباطل.
لا يخفى على أحد ما يعانيه المسلمون في شتى بقاع الأرض من أزمات شتى، ففي الوقت الذي يصارع فيه علماء المسلمين موجات الإلحاد والزندقة، وردِّ دعاوى الجاهلية القديمة والمعاصرة، وصد عاديات التغريب، والانحراف، بدت محنة أخرى من أبشع المحن التي تعرض لها الإسلام والمسلمون؛ إذ نزعت في المواجهة نزعاً عنيفاً بوقاحة، كيداً للمسلمين، وطعناً في الدين، لإفساد نزعة التدين بالإسلام، والدخول فيه، وتذويب شخصيته في معترك الديانات، ومطاردة التيار الإسلامي، وكبت طلائعه المؤمنة، وسحب أهله عنه إلى ردة شاملة.. ألا وهو ما جَهَرَ به اليهود والنصارى وأتباعهم، من الدعوة إلى الخلط بين الإسلام وغيره من الأديان (وحدة الأديان)، وزرع خلاياهم في أعماق أمة الإسلام في كل صقع ودار، وصهر المسلمين معهم في قالب واحد، فلا «ولاء»، ولا «براء»، ولا يوجد مسلم وكافر، فالكل عند الله تعالى سواسية.
من هنا، وجب علينا أن نتوقف عند هذه الفرية «وحدة الأديان» التي ظهرت بين المسلمين، ونزلت بساحتهم؛ ما الباعث لها؟ وما الغاية التي ترمي إليها؟ وما مدى مصداقية شعاراتها؟ وما حكم الإسلام فيها، وحكم الاستجابة لها من المسلمين، وحكم من دعا إليها، ومهد السبيل لها بين المسلمين، ونشرها في ديارهم؟
أولاً: السرد التاريخي:
بتتبع المراحل التاريخية لفرية «وحدة الأديان»، نجدها قد مرت بأربع حقب زمانية، هي:
1- عصر النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: فقد بيَّن الله سبحانه في محكم كتابه أن اليهود والنصارى في محاولة دؤوبة لإضلال المسلمين عن إسلامهم، وردهم إلى الكفر، ودعوتهم المسلمين إلى اليهودية أو النصرانية، فقال تعالى: (وَدَّ كَثِيرٌ مِّنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُم مِّن بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً مِّنْ عِندِ أَنفُسِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُواْ وَاصْفَحُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ) (البقرة: 109)، وقال تعالى: (وَقَالُواْ كُونُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُواْ قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ) (البقرة: 135)، وهكذا في عدد من الآيات التي يتلوها المسلمون في كتاب الله؛ ليحذروا اليهود والنصارى، وغيرهم، كما قال تعالى: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ) (البقرة: 42)، قال ابن جرير الطبري عند هذه الآية: «عن مجاهد أنه قال: (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ) اليهودية والنصرانية بالإسلام»، وفي تفسير ابن كثير عن قتادة أنه قال عند هذه الآية: «ولا تلبسوا اليهودية والنصرانية بالإسلام، إن دين الله الإسلام..».
2- مرحلة الدعوة إليها بعد القرون المفضلة: ثم بدت محاولاتهم مرة أخرى تحت شعار صنعوه، وموهوا به على الجهال، وهو أن الملل (اليهودية، والنصرانية، والإسلام) هي بمنزلة المذاهب الفقهية الأربعة عند المسلمين، كل طريق منها يوصل إلى الله تعالى([1])، وهكذا فيما يثيرونه من الشبه، ثم تلقاها عنهم دعاة “وحدة الوجود” و”الاتحاد والحلول” وغيرهم من المنتسبين إلى الإسلام من ملاحدة المتصوفة وغلاة الرافضة، حتى بلغ الحال أن بعض هؤلاء الملاحدة يجيزون التهود، والتنصر، بل فيهم من يرجح دين اليهود والنصارى على دين الإسلام، وهذا فاشٍ فيمن غلبت عليهم الفلسفة منهم، ثم انتقلوا إلى أن أفضل الخلق عندهم هو «المحقق»؛ وهو الداعي إلى الحلول، والاتحاد، ولقد كشفهم شيخ الإسلام ابن تيمية في مواضع من كتابه([2])، وقد قُمِعَت هذه الدعوة الكفرية بمواجهة علماء الإسلام لها، والمناداة عليها، وعلى منتحليها بأنها كفر وردة عن الإسلام.
3- مرحلة الدعوة إليها في النصف الأول من القرن الرابع عشر: وقد خمدت حيناً من الدهر محتجرة في صدر قائليها، المظهرين للإسلام، المبطنين للكفر والإلحاد، حتى تبنتها حركة «صن مون التوحيدية»، وقبلها «الماسونية» تحت غطاء الدعوة إلى وحدة الأديان الثلاثة، ونبذ التعصب بجامع الإيمان بالله، فكلهم مؤمنون.
4- وكنا نظن أن هذه الفرية قد انتهت للأبد، إلا أننا فوجئنا بالمرحلة الرابعة في ظل النظام العالمي الجديد، والتطبيع مع الكيان الصهيوني المغتصب؛ حيث جهر اليهود والنصارى بالدعوة إلى التجمع الديني بينهم، وبين المسلمين، وبعبارة أخرى التوحيد بين الموسوية، والعيسوية، والمحمدية باسم «الدعوة إلى التقريب بين الأديان» (التقارب بين الأديان)، ثم باسم «نبذ التعصب الديني»، ثم باسم «الإخاء الديني»، وباسم «مجمع الأديان»، وفتح له مركز بسيناء مصر بهذا الاسم([3])، وباسم «الصداقة الإسلامية المسيحية»، وباسم «التضامن الإسلامي المسيحي ضد الشيوعية»، ثم أخرجت للناس تحت عدة شعارات، منها «وحدة الأديان»، «توحيد الأديان»، «توحيد الأديان الثلاثة» «الإبراهيمية»، «الوحدة الإبراهيمية»، «وحدة الدين الإلهي»، ثم لحقها شعار آخر، هو «وحدة الكتب السماوية»، ثم امتد أثر هذا الشعار إلى فكرة طبع القرآن الكريم، والتوراة، والإنجيل في غلاف واحد.
ثانياً: حُكم هذه الفرية:
من أصول الاعتقاد في الإسلام اعتقاد توحد الملة والدين في التوحيد، والنبوات، والمعاد، والإيمان الجامع بالله، وملائكته، وكتبه ورسله، واليوم الآخر، والقدر خيره وشره، وما تقتضيه النبوة والرسالة من واجب الدعوة، والبلاغ، والتبشير، والإنذار، وإقامة الحجة، وإيضاح المحجة، وإخراج الناس من الظلمات إلى النور، بإصلاح النفوس، وتزكيتها، وعمارتها بالتوحيد، والطاعة، وتطهيرها من الانحراف، والحكم بين الناس بما أنزل الله، واعتقاد تعدد الشرائع وتنوعها في الأحكام، والأوامر والنواهي، وهذا الأصل هو جوهر الرسالات كلها.
وإن الدعوة إلى توحيد دين الإسلام الحق الناسخ لما قبله من الشرائع، مع ما عليه اليهود والنصارى من دين دائر بين النسخ والتحريف، هي أكبر مكيدة عُرفت لمواجهة الإسلام والمسلمين اجتمعت عليها كلمة اليهود والنصارى بجامع علتهم المشتركة بُغض الإسلام والمسلمين، وغلفوها بأطباق من الشعارات اللامعة، وهي كاذبة خادعة، فهي في حكم الإسلام دعوة بدعية، ضالة كفرية؛ لأنها تصطدم مع بدهيات الاعتقاد، وتنتهك حرمة الرسل والرسالات، وتبطل صدق القرآن الكريم، ونسخه لجميع ما قبله من الكتب، وتبطل نسخ الإسلام لجميع ما قبله من الشرائع، وتبطل ختم النبوة والرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم، فهي فرية مرفوضة شرعاً، محرمة قطعاً بجميع أدلة التشريع في الإسلام من كتاب وسُنة، وإجماع، وما ينطوي تحت ذلك من دليل وبرهان.
فلا يجوز لمسلم يؤمن بالله رباً، وبالإسلام ديناً، وبمحمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رسولاً، الاستجابة لمثل هذه الدعوات، ولا الدخول في مؤتمراتها، وندواتها، واجتماعاتها، وجمعياتها، ولا الانتماء إلى محافلها، بل يجب نبذها، ومنابذتها، والحذر منها، والتحذير من عواقبها، واحتساب الطعن فيها، والتنفير منها، وإظهار الرفض لها، وطردها عن ديار المسلمين، وعزلها عن شعورهم، ومشاعرهم والقضاء عليها، وهذه الفرية إن حظيت بقبول من اليهود، والنصارى، فهم جديرون بذلك؛ لأنهم لا يستندون إلى شرع منزل مؤبد، بل دينهم إما باطل محرف، وإما حق منسوخ بالإسلام، أما المسلمون فلا يجوز لهم بحال الانتماء إلى هذه الفكرة؛ لانتمائهم إلى شرع منزل مؤبد كله حق، وصدق، وعدل، ورحمة.
وليعلم كل مسلم عن هذه الفرية أنها فلسفية النزعة، سياسية النشأة، إلحادية الغاية، تستهدف الإسلام والمسلمين من خلال:
1- إيجاد مرحلة التشويش على الإسلام، وبلبلة عقول المسلمين، وشحنهم بسيل من الشبهات، والشهوات؛ ليعيش المسلم بين نفس نافرة، ونفس حاضرة.
2- إتيانها على الإسلام من القواعد، مستهدفة إبرام القضاء على الإسلام واندراسه، ووهن المسلمين، ونزع الإيمان من قلوبهم، وَوَأدِه.
3- حل الرابطة الإسلامية بين العالم الإسلامي في شتى بقاعه؛ لإحلال الأخوّة البديلة اللعينة؛ «أخوة اليهود والنصارى».
4- إبطال أحكام الإسلام المفروضة على المسلمين أمام الكافرين من اليهود والنصارى وغيرهم من أمم الكفر ممن لم يؤمنوا بالإسلام، وترك ما سواه من الأديان.
5– صياغة الفكر بروح العداء للدين في ثوب «وحدة الأديان»، وسلخ العالم الإسلامي من ديانته، وعزل شريعته عن الحياة، حينئذ يسهل تسريحه في مجاهل الفكر، والأخلاقيات الهدامة، مفرغاً من كل مقوماته، وجعل المسلم في محطة التلقي لِمَا يملى عليه من أعدائه، وأعداء دينه.
6- إسقاط جوهر الإسلام، واستعلائه، وظهوره وتميزه، بجعل هذا الدين المحكم المحفوظ من التحريف والتبديل، في مرتبة متساوية مع غيره من كل دين محرف منسوخ، بل مع العقائد الوثنية الأخرى.
7- ثم غاية الغايات: بسط جناح الكفرة من اليهود والنصارى، وغيرهم على العالم بأسره، والتهامه، وعلى العالم الإسلامي خاصة؛ لغزو شامل ضد الإسلام والمسلمين بشتى أنواع النفوذ؛ الفكري، والثقافي، والاقتصادي، والسياسي، وإقامة سوق مشتركة، لا تحكمه شريعة الإسلام، ولا سمع فيه ولا طاعة لخُلق فاضل أو فضيلة ([4]).
لذا وجب على المسلمين الكفر بهذه الفرية «وحدة الأديان»، وليعلم كل مسلم أن الدعوة إلى هذه الفرية كفر، ونفاق، ومشاقة، وشقاق، وعمل على إخراج المسلمين من الإسلام، وأن حال الدعاة إليها من اليهود، والنصارى مع المسلمين كما قال الله تعالى: (وَإِذَا لَقُوكُمْ قَالُواْ آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْاْ عَضُّواْ عَلَيْكُمُ الأَنَامِلَ مِنَ الْغَيْظِ) (آل عمران: 119).
وأخيراً: قد يقول قائل: ما المانع أن تتعاون كل الأديان في إسعاد البشرية؟
ونقول: إن الإسلام يدعونا إلى بر كل إنسان لم تمتد يده بالأذى للمسلمين، قال تعالى: (لَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8 )، ولكنه في الوقت نفسه حذرنا من حقد هؤلاء علينا، فقال تعالى: (وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120)؛ فكيف نتعاون مع أناس لا يعترفون بنا ويضمرون لنا كل شر؟! ([5])
[1] – الموسوعة الميسرة: 2/ 669 – 674. ط 3، ص 449 – 454. ط1.
[2] – الرد على المنطقيين: ص 282 – 283.
[3] – كتاب «الإخاء الديني، ومجمع الأديان.. سياسة غير إسلامية» ص 3، محمد البهي.
[4] – انظر: كتاب: «صحوة الرجل المريض» لموفق بني المرجه، ص 345.
[5] – للمزيد طالع كتاب «الإبطال لنظرية الخلط بين دين الإسلام وغيره من الأديان» د. بكر بن عبد الله أبو زيد.