د. حاتم عبدالعظيم
تمثل الأسرة في الإسلام ركيزة بنائه الاجتماعي وعماد استقراره وأساس أدائه لوظيفته الرسالية، واعتنى الإسلام بتكوين الأسرة اعتناء ضافياً من حيث تكوينها بمراحله، وبيان أحكامها التفصيلية من حقوق وواجبات وقيم وأخلاق وآداب في إطار من العواطف الحانية التي تقيها من العواصف العاتية.
وقد رغَّب الإسلام في المبادرة إلى الزواج وعدم تأجيله أو تعطيله حتى تترسخ المنظومة الإسلامية بقيمها وتغلب على المجتمع وتقطع الطريق على الانحراف والفساد بسد ذرائعه وإقامة موانعه، ولا أعصم من الانحراف من زواج مبكر، ولا أدعى منه للانشغال بمعالي الأمور دون سفسافها وتحمل للمسؤولية عوضاً عن لهو فارغ تضيع فيه طاقات كثير من الشباب، ويا لها من طاقات!
والمقصود بالتبكير هنا هو التبكير الذي يناسب الواقع ويحقق المقصود ولا يحول دون تحصيل علمي تأسيسي أو تأهيل مناسب لتحمل تبعات الزواج في غير ما إفراط أو تفريط.
وإذا كان شرط الزواج هو البلوغ الشرعي، فإن ذلك لا يمنع مراعاة النضوج النفسي والقدرة العملية على تحمل تبعات الزواج نفسياً وجسدياً، وهي مسألة نسبية تحتاج إلى حسن تقدير من الأولياء واعتدال ووسطية في ضبط المجتمع لها، ونستأنس لذلك بمفهوم الاستطاعة الذي جاء في الحديث الشريف: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ..».
وأدلة الترغيب في الزواج المبكر في الكتاب والسُّنة كثيرة، منها قوله تعالى: (وَأَنكِحُوا الْأَيَامَى مِنكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ إِن يَكُونُوا فُقَرَاء يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِن فَضْلِهِ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ) (النور: 32)؛ والمعنى: بادروا إلى تزويج من لا زوج له من شبابكم وفتياتكم.
وفي حديث ابن مسعود قَالَ: كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ شَبَاباً لَيْسَ لَنَا شَيْءٌ، فَقَالَ: «يَا مَعْشَرَ الشَّبَابِ، مَنِ اسْتَطَاعَ مِنْكُمُ الْبَاءَةَ فَلْيَتَزَوَّجْ، فَإِنَّهُ أَغَضُّ لِلْبَصَرِ، وَأَحْصَنُ لِلْفَرْجِ، وَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ، فَعَلَيْهِ بِالصَّوْمِ، فَإِنَّ الصَّوْمَ لَهُ وِجَاءٌ»، فلم يمنعه النبي ﷺ ما كان عليه شباب الصحابة من فقر ظاهر وقلة ذات يد من حثهم على الزواج ما داموا يملكون الحد الأدنى لابتداء الحياة في غير مغالاة ولا سرف.
وروى مسلم عن فاطمة بنت قيس أن النبي ﷺ أشار عليها أن تتزوج أسامة بن زيد حين طلقها زوجها وخطبها بعده غير واحد من الصحابة، فقال لها: «انْكِحِي أُسَامَةَ بْنَ زَيْدٍ، فَكَرِهْتُهُ، ثُمَّ قَالَ: انْكِحِي أُسَامَةَ فَنَكَحْتُهُ، فَجَعَلَ اللهُ فِيهِ خَيْرًا وَاغْتَبَطْت»، وقد كان أسامة بن زيد يومئذ دون السادسة عشرة من عمره.
وعن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إِذَا أَتَاكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ خُلُقَهُ وَدِينَهُ فَزَوِّجُوهُ، إِلَّا تَفْعَلُوا تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ عَرِيضٌ»، فدعا إلى تيسير الزواج وإجابة الأكفاء إذا أتوا خاطبين.
وإذا حاولنا أن نتلمس المقاصد التي توخاها الشرع بالحث على الزواج المبكر، فإننا نجد عديداً من تلك المقاصد الشريفة، منها:
1- الزواج المبكر هو الوسيلة المثلى لحماية الشباب والفتيات من الفساد الأخلاقي العريض الذي يضرب العالم بأسره في هذا الزمان، الذي بات يقتحم على الناس غرف نومهم من خلال وسائل التواصل الحديثة بما حملته من فتنة واسعة تسري كالنار في الهشيم، ولا ريب في أن الزواج المبكر وقاء من التردي في حبائل الشيطان هذه.
2- لا شك أن من البركة أن يولد للإنسان في شبابه فينعم الأبناء بطول صحبة أبويهم وبوفرة نشاطهم وعطائهم، ويدرك الزوجان حفدتهم، وتلك من نِعَم الله تعالى على عباده، قال تعالى: (وَاللّهُ جَعَلَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً وَجَعَلَ لَكُم مِّنْ أَزْوَاجِكُم بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ) (النحل: 72)، ومما يرويه المؤرخون أنه «كَانَ عَمْرو بن الْعَاصِ أسنّ من ابْنه عبدالله باثنتي عشرَة سنة».
يقول د. ألكسيس كاريل، في كتابه «الإنسان ذلك المجهول»: «وكلما قصرت المسافة الزمنية التي تفصل بين جيلين كان تأثير الكبار الأدبي على الصغار أكثر قوة، ومن ثم يجب أن تكون النساء أمهات في سن صغيرة، حتى لا تفصلهن عن أطفالهن ثغرة كبيرة لا يمكن سدها، حتى بالحب».
3- كما أن في الزواج المبكر تكريماً للزوجين وضماناً لرعايتهما إذا احتاجا إلى رعاية؛ إذ يشب أبناؤهما في شبابهما، فيكونون أقدر على البر وأقوم به، بخلاف ما لو تأخر الزواج فكبر الزوجان وأولادهما صغار أو في بدايات الشباب، والرعاية في الكبر من أهداف الزواج ومقاصده المعتبرة، يقول تعالى: (وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ إِحْسَاناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَوَضَعَتْهُ كُرْهاً وَحَمْلُهُ وَفِصَالُهُ ثَلَاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَعَلَى وَالِدَيَّ وَأَنْ أَعْمَلَ صَالِحاً تَرْضَاهُ وَأَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَإِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) ( الأحقاف: 15).
4- الزواج المبكر أصل في تنمية الإحساس بالمسؤولية لدى الشباب والفتيات، مع ما يقتضيه ذلك من التأهيل والإعداد النفسي والمعرفي والعملي في آن، والفطرة لا شك فاعلة حاضرة في التحفيز للنضج المبكر حين يعلم الشاب أن في رقبته زوجة هي حليلته وهو راعيها ومسؤول عنها وقوام عليها، وحين تعلم الفتاة أنها صارت في موضع المسؤولية وصار الزوج والبيت أمانة في رقبتها.
5- تعزيز الصحة النفسية لكلا الزوجين حين يجد من يعتني به ويهتم لشأنه ويحرص على إرضائه وإسعاده، وفي الكتاب العزيز قال تعالى: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُم مِّنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِّتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُم مَّوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم: 21)، وقال عز وجل: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَجَعَلَ مِنْهَا زَوْجَهَا لِيَسْكُنَ إِلَيْهَا) (الأعراف: 189)، ولا شك أن الشباب أحوج لذلك وأكثر به فرحاً.
6- في الزواج المبكر إعانة على العبادة حين يتفرغ القلب لذلك، وتقضي النفس وطرها بالزواج فتصفو مشاربها للطاعة والعبادة ومعالي الأمور، قال طَاوُس: «لَا يَتِمُّ نُسُكُ الشَّابِّ حَتَّى يَتَزَوَّجَ»، والزواج بغير شك إعانة للإنسان على حفظ دينه وطاعة ربه، وفي الحديث الصحيح عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «مَنْ يَضْمَنْ لِي مَا بَيْنَ لَحْيَيْهِ وَمَا بَيْنَ رِجْلَيْهِ أَضْمَنْ له الجنة»، بل إن الزواج نفسه من جملة العبادات والقربات ومن أجلِّها عند الله تعالى، وفي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي ذَرٍّ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «فِي بُضْعِ أَحَدِكُمْ صَدَقَةٌ»، قَالُوا: يَا رَسُولَ، أَيَأْتِي أَحَدُنَا شَهْوَتَهُ، وَيَكُونُ لَهُ فِيهِ أَجْرٌ؟ فَقَالَ: «أَرَأَيْتُمْ لَوْ وَضَعَهَا فِي الْحَرَامِ أَكَانَ عَلَيْهِ فِيهِ وِزْرٌ، فَكَذَلِكَ إِذَا وَضَعَهَا فِي الْحَلَالِ، كَانَ لَهُ أَجْرٌ».
7- في الزواج المبكر مواجهة استباقية مع ظاهرة العنوسة التي باتت تستشري في المجتمعات المسلمة حتى صار لدينا ملايين الفتيات في كل بلد مسلم جاوزن الثلاثين من العمر دون زواج، وفي هذا تعطيل لطاقات بشرية ما كان لها أن تعطل عن وظائفها الاجتماعية، وحرمان من الإشباع العاطفي والغريزي لا تستقيم معه الحياة ولا يتحقق التكريم الإلهي للإنسان، ومن العجب العجاب أن يفتح الغرب باب العلاقات الجنسية المنفلتة أمام الجنسين في سن صغيرة، ونشدد نحن على أنفسنا في الزواج على نحو تضيع معه مصالح عظمى وتنزل محلها مفاسد كبرى.
هذه الاعتبارات مجتمعة تدعو مجتمعات المسلمين إلى إعادة النظر في مسألة الزواج؛ تيسيراً لأسبابه في غير إسراف، وتعجيلاً به في غير تسويف، واحتفاء به بوصفه شعيرة وشريعة وطاعة وعبادة وهداية وعمارة.