انتشر في الآونة الأخيرة الزواج عبر الإنترنت، مع ما تبعه من مساجلات وإشكالات اجتماعية وشرعية، وتنوعت فيه آراء الفقهاء المعاصرين بين من يرى إباحة الزواج عبر الإنترنت ما دام مستوفياً شروطه وأركانه، ومن يمنعه؛ لقدسية عقد الزواج، وأنه ليس مثل باقي العقود التي تتعلق بالمال أو تقديم الخدمات.
وقبل بيان الرؤية الفقهية في المسألة، نريد أن نقرر أن مثل هذه القضايا يجب ألا يُكتفى فيها بالحكم الشرعي، بل لا بد من دراسة الجوانب الأخرى؛ الاجتماعية والنفسية، وما يحوطها من إشكاليات متعددة، فليس الحكم على الشيء بالحل، يعني لزوم الفعل، فإن مقصود الحكم الشرعي بالإباحة أن يرتفع الإثم عن الفاعل، أما فاعلية الشيء وجدواه، فهذا مرده إلى الموازنة بين المصالح والمفاسد في الأمر، فقد يكون الشيء في أصله مباحاً، لكنه قد يكون حراماً أو واجباً أو مستحباً أو مكروها من جهة أخرى، كما أصَّل الإمام الشاطبي في «الموافقات» في حديثه عن نظرية الإباحة.
وقد رُوي عن عمر رضي الله عنه، ومثله عن أبي بكر، تحري ترك أبواب من الحلال مخافة الوقوع في الحرام.
وعلى هذا، فالحديث هنا ليس عن جدوى الزواج الإلكتروني وهل يفعله الناس أم لا؟ وإنما بيان الرؤية الفقهية في رفع الإثم عن فاعله والحكم بحِلّه أو حرمته، ثم يبقى الرأي الكلي الجامع يحتاج إلى دراسات متكاملة بين علماء الشريعة وعلماء العلوم الإنسانية خاصة علمي النفس والاجتماع.
إشكالية مفهوم الزواج عبر الإنترنت
حين الحديث عن «الزواج عبر الإنترنت»، فنحن نتحدث عن مفهومين لا بد من التمييز بينهما، وهما:
الأول: الزواج عبر الإنترنت بمعنى أن يكون الإنترنت وسيلة لعقد الزواج، ثم تكون هناك حياة حقيقية بين الزوجين فيما بعد، فقط يتم العقد ويترتب للبناء بالزوجة وترتيب الحياة العادية التي يعرفها الناس.
الثاني: الزواج عبر الإنترنت بمعنى أن تكون الحياة الزوجية حياة عبر الإنترنت، يلتقي الزوجان عبر وسائل الإنترنت ويمارسان الحياة الزوجية أو بعضها عبر هذه الوسائل، ولكن ليس هناك حياة حقيقية ولا سكن ولا عيش بينهما.
المسألة الأولى: الإنترنت وسيلة لعقد الزواج:
وقبل بيان الرؤية الشرعية في المسألتين، نود الإشارة إلى أن الاجتهادات الفقهية المعاصرة في التعامل مع «قضية الزواج عبر الإنترنت» ينتابها القصور من جهة التصور في الغالب، فكلا الفريقين غالباً ينظر إلى زوايا في القضية دون النظر إلى بقية الزوايا والإشكالات فيها، ولهذا نبه علماء أصول الفقه عند الحديث عن الاجتهاد إلى أنه يمر بثلاث مراحل، هي: «التصور أو التصوير، والتكييف، والتنزيل»، وكل مرحلة منها ينتابها ما أسماه العلماء بـ«مثارات الغلط»، أو الوقوع في الفهم الخطأ أو من جهة نقص المعلومات، أو الاقتصار في النظر على جزئيات دون أخرى، أو التساهل في النظر غير المؤصل، خاصة إذا سئل الفقيه عبر وسائل الاتصال الحديثة، أو من خلال رأيه في هاتف دون تأصيل وبحث المسألة.
واعتبار الإنترنت وسيلة لعقد الزواج في «التصور» ليس صورة واحدة، بل هو صور متعددة:
برامج الكتابة: إما أن يكون عبر «الكتابة» بلا كلام.
البرامج الصوتية: أو أن يكون بالنطق والكلام مع الكتابة أو بدونها، وهذا النطق يختلف باختلاف الوسيلة المستعملة، فهناك النطق من خلال الهاتف العادي، وهذا له خصائص ومزايا عن غيره، وقد يكون عن طريق بعض برامج التواصل، مثل: «واتساب»، «ماسنجر»، «وي تشات»، «إنستجرام»، «جوجل ميتينج»، «زووم» «كيو كيو».. أو غيرها من الوسائل المتنوعة، وهذا التنوع واعتبار خصائص كل وسيلة منها ربما يكون له أثر في الاجتهاد الفقهي المعاصر.
البرامج المرئية: أو أن يكون الزواج بالصوت الصورة (الفيديو)، وهذه متنوعة، حسب خصائص كل برنامج من البرامج المرئية.
الحكم الشرعي في إجراء عقد النكاح عبر الإنترنت
عقد النكاح بالكتابة:
أما عن صحة عقد النكاح بالكتابة فقد منعها مجمع الفقه الإسلامي رغم إباحته لكثير من العقود الأخرى، وإلى المنع ذهب مجمع الفقه بالهند وعدد من الفقهاء المعاصرين.
ويستند هذا الرأي إلى أصل سد الذرائع، وما يحوط كثير من الحالات من الغش والخداع، كما استندوا إلى قاعدة الاحتياط في أمر النكاح؛ لأهميته وخطره دون غيره من العقود.
وهذا الرأي يستند إلى قول جمهور الفقهاء بمنع عقد النكاح بالكتابة وحدها دون النطق.
ولكنْ هناك رأي آخر، أجاز عقد النكاح بالكتابة بما فيها الكتابة عبر وسائل التواصل الاجتماعي، وهو رأي الشيخ مصطفى الزرقا، ود. وهبة الزحيلي وغيرهما، وهو رأي يستند إلى مذهب الأحناف، القائل بجواز عقد النكاح عن طريق الكتابة وحدها دون غيرها، بعد التثبت، مع ما يشترط فيه من الولي والشهود وغير ذلك من الشروط والأركان.
والحق أن قول الحنفية بصحة العقد بالكتابة وحدها دون غيرها، له ملابسات وسياقات يجب اعتبارها وهل هي تتوافق مع زماننا أم لا؟
ففقر وسائل التواصل قديماً، مع صعوبة التنقل ووسائل السفر قد تجعل من القول بإباحة الزواج عبر الكتابة في عصرها مقبولاً، أما اليوم، فمع الكثرة الكاثرة من وسائل التواصل بين الناس، وسهولة السفر والانتقال، ففي رأيي أن القول بجواز عقد النكاح بالكتابة وحدها غير صحيح لا على مذهب الجمهور ولا على مذهب الحنفية، وأن إسقاط رأي الحنفية على عصرنا صورة جديدة، فلا يجوز استدعاء قول قديم على واقع جديد، تتغير فيه الملابسات والسياقات، كما أن الزواج الذي سماه الله تعالى «ميثاقاً غليظاً» يتنافى مع كونه مجرد كتابة على الشات اليوم مع وفرة وسائل التواصل الاجتماعي وسهولة السفر، وعليه، فالزواج بالكتابة على وسائل التواصل اليوم غير جائزة.
عقد النكاح بالصوت أو الصورة:
أما عقد النكاح ببرامج الصوت، فالبرامج مختلفة ومتنوعة، فالنكاح إذا حصل عن طريق الهاتف واستوفى شروطه وأركانه ومن أهمها الولي والشهود وتم التأكد؛ فلا حرج في ذلك، ويكون العقد صحيحاً، وكذلك الحال مع البرامج الصوتية الأخرى، إذا تم التأكد من صحة عقد الزواج والأشخاص والشهود، أما إذا كانت البرامج تسمح بالغش والمخادعة؛ فلا يصح عقد النكاح بها.
والأمر نفسه ينطبق على البرامج المرئية، وإن كانت البرامج المرئية أقل خطراً من البرامج الكتابية والمسموعة، فإذا استوفى عقد النكاح أركانه وشروطه صح من جهة التدين، ويبقى توثيقه في الجهات الرسمية واجباً شرعياً وقانونياً؛ صيانة لعقد الزواج.
الإشهار الإلكتروني
هذا، إذا كان الإنترنت وسيلة لعقد النكاح وإعلانه، وقد يستفاد من وسائل التواصل اليوم إشهار عقد النكاح أكثر من إشهاره في الواقع، عبر وسائل التواصل المرئية وحضور جماهير غفيرة من كلا الطرفين، إذا كان بحضور الأسرتين والأقارب والأصدقاء، مع وجوب التوثيق، على أن يكون ذلك للعقد حتى تتيسر أمور ترتيب البناء والحياة بين الزوجين، وقد تكون تلك الوسيلة المعاصرة حلاً وإزالة لكثير من العوائق خاصة مع منع السفر في بعض حالات الطوارئ كما رأينا في أحداث «كورونا»، وقد تكون تيسيراً للزواج ونفقاته، واختصاراً لخطواته التي تأخذ زمناً ووقتاً وجهداً ومالاً، وما وسائل التواصل المرئية خاصة إلا نقل للواقع وتقريب للمسافات البعيدة.
الإجراءات القانونية
كما أنه على الدول أن تناقش الأمر من الناحية القانونية، وأن تضع الإجراءات التي تحمي به عقد النكاح، ونحن اليوم نشهد طفرة في إثبات العقود الإلكترونية من الناحية القانونية، وقد دعا بعض الفقهاء إلى إنشاء محكمة إلكترونية، ويجب دراسة الأمر من الناحية القانونية من جهة الأخطار أو المصالح التي تترتب على العقد الإلكتروني في النكاح، وأن يراعى الواقع والتيسير على الناس.
أما الزواج عبر الإنترنت ليكون الزواج حياة إلكترونية، فهذا يفرد في مقال آخر إن شاء الله تعالى.