يقول أصحاب هذه الشبهة من علماني الشرق والغرب: أتريدون أن ترجعوا بنا أكثر من ألف سنة إلى الوراء.. إلى عهد الجمال والخيام؟!
لقد كان الإسلام صالحاً لأولئك الحفاة العراة من الأعراب قبل أكثر من ألف سنة، وكانت سذاجته وبدائيته مناسبة للبيئة البدوية التي نشأ فيها، أما اليوم فهل يصلح في عهد المدنية والحضارة الآلية؟ عصر الطائرات الصاروخية والقنابل الهيدروجينية وناطحات السحاب؟!
إنه دين جامد لا يتفاعل مع الحضارة الحديثة، ولا مناص من نبذه إذا أردنا أن نتحضر.
تفنيد هذه الشبهة وبيان بطلانها
أولًا: ينبغي أن نؤكد أن الإسلام لا يمنع المسلمين من التعامل مع غير المسلمين الذين لم يعتدوا عليهم، بل يدعو إلى برهم والإحسان إليهم قال تعالى: (لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة: 8).
ثانيًا: لقد نزل الإسلام في قوم نصفهم من الأعراب، بلغ من جفوتهم وغلظة قلوبهم أن يقول فيهم القرآن: (الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنزَلَ اللَّهُ عَلَىٰ رَسُولِهِ ۗ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) (التوبة: 97)، فكانت معجزة الإسلام العظمى أن جعل من هؤلاء الحفاة العراة أمة من الآدميين، لا يكتفون بأنهم اهتدوا بهدي الله تعالى فارتفعوا إلى آفاق الإنسانية الرفيعة، بل أصبحوا هم أنفسهم هداة البشرية يدعونها إلى هُدى الله عز وجل، وذلك وحده برهان على ما في هذا الدين من قدرة عجيبة على تحضير الناس وتهذيب النفوس.
لم يكتف الإسلام بهذا العمل الجبار في داخل النفوس، وهو العمل الحقيقي الذي يستأهل الجهد ويستحق التسجيل؛ لأنه الهدف الأخير من كل المدنيات والحضارات، بل ضم إليه كل مظاهر المدنية التي يهتم بها الناس اليوم ويحسبونها لُباب الحياة، فتبنّى كل الحضارات التي وجدها في البلاد المفتوحة مثل مصر وفارس وبلاد الروم، ما دامت لا تخالف عقيدته في وحدانية الله تعالى ولا تصرف الناس عن الخير الواجب لعباد الله.
كذلك تبنّى الإسلام كل الحركة العلمية التي كانت لدى اليونان من طب وفلك ورياضة وطبيعة وكيمياء وفلسفة، ثم أضاف إليها صفحات جديدة تشهد بتعمق المسلمين في البحث، واشتغالهم الجدي بالعلم، حتى كانت خلاصة ذلك كله في الأندلس هي التي قامت عليها نهضة أوروبا الحديثة وفتوحاتها في العلم والاختراع، فمتى وقف الإسلام في وجه حضارة نافعة للناس(1)؟
موقف الإسلام من الحضارة الغربية
ثالثًا: إذا كان أصحاب هذه الشبهة يقصدون بها معرفة موقف الإسلام من الحضارة الغربية السائدة اليوم، فإن موقفه منها كموقفه من كل الحضارات السابقة التي تعامل معها، يتقبل ما فيها من خير، ويرفض ما فيها من شر، فالإسلام لم يدع قط إلى عُزلة علمية أو مادية، ولا يُعادي الحضارات الأخرى معاداة شخصية أو عنصرية، لإيمانه بوحدة البشرية واتصال الوشائج بين البشر من جميع الأجناس وجميع الاتجاهات، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ) (الحجرات: 13).
إذن، فلا خوف من أن يقف الإسلام دون استخدام ثمار الحضارة الحديثة كما يفهم مثيرو هذه الشبهة، ولن يشترط المسلمون أن تكون الأدوات والآلات مكتوباً عليها «بسم الله الرحمن الرحيم» حتى يقبلوا استخدامها في منازلهم ومصانعهم ومزارعهم ومختلف مرافق حياتهم!
الآلة في ذاتها لا يمكن أن يكون لها دين ولا جنس ولا وطن، ولكن الهدف من استخدامها هو الذي يتأثر بأولئك جميعاً، فالمدفع في ذاته إنتاج بشري لا عنوان له، ولكنَّ الإسلام يرفضه حين يُستخدم في الاعتداء على الآخرين، فشرط استخدامه في الإسلام أن يكون دفعاً لعدوان أو إحقاقاً لكلمة الله في الأرض، والسينما في ذاتها إنتاج بشري كذلك، ويستطيع المسلم أن يستخدمها في عرض العواطف النظيفة والإنسانية الرفيعة وصراع الأحياء في سبيل الخير، ولكنَّ الإسلام يرفضها حين تُستخدم لعرض الأجساد العارية وإثارة الشهوات الهابطة وإيقاع الإنسانية في حمأة الرذيلة.
وكذلك لم يقف الإسلام دون التفاعل مع التجارب العلمية التي تنتجها البشرية في أي مكان على الأرض، فكل تجربة بشرية صالحة هي غذاء يجب أن يجربه المسلمون، وقد قال الرسول صلى الله عليه وسلم: «طلب العلم فريضة على كل مسلم، وإن طالب العلم يستغفر له كل شيء، حتى الحيتان في البحر»(2).
إذن، لا خوف من وقوف الإسلام في وجه الحضارة ما دامت نفعاً للبشرية، أما إذا كانت الحضارة هي الخمر والميسر، والدعارة الخُلقية والجنسية، والاستعمار الدنيء، واستعباد البشر تحت مختلف العناوين، وانتشار الربا في كل مؤسسات الدول، واستغلال حاجة الفقراء وإذلالهم؛ فحينذاك يقف الإسلام حقاً في وجه هذه «الحضارة» المزعومة، ويقيم نفسه حاجزاً بين الناس وبين التردي في مهاوي التهلكة.
ونُذكِر أصحاب هذه الشبهة ببعض علماء المسلمين الذين نبغوا في العلوم الحياتية وعاشت أوروبا فترة طويلة تنهل من علومهم، من أمثال:
– أبو بكر الرازي: (ولد بمدينة الري في طهران عام 250هـ) الذي كتب 113 كتابًا، و28 رسالة علمية، وجميعها في مجال الطب، ومن كتبه «الحاوي في علم التداوي»، واعتبر هذا الكتاب مرجعًا طبيًا شاملًا، وترجم إلى أكثر من لغة، بالإضافة إلى كتاب «الأسرار في الكيمياء»، وكتاب «الطب الروحاني»، وغيرها من الكنوز الطبية العظيمة.
– الحسن ابن الهيثم: (ولد في البصرة عام 354هـ) الذي أثبت حقيقة مصدر الضوء، وأن الضوء ينبثق من الأجسام وينعكس على العين وليس العكس، وهو أول من وضع تشريحًا مفصلًا وكاملًا للعين، وأول من شرح عملية الإبصار، وأول من درس تأثير الحالة النفسية على حاسة البصر، ويعد المؤسس الأول لعلم المناظر والبصريات بالنسبة لرواد البحث العلمي.
– أبو ريحان البيروني: (ولد بمدينة خوارزم في أوزباكستان عام 362هـ) الذي كتب حوالي 150 كتابًا، منها كتاب «القانون المسعودي» الذي اهتم بالجداول الفلكية، وكتاب «الصيدنة في الطب»، وكتاب «الجماهر في معرفة الجواهر» الذي استعرض المعادن الثمينة وكافة المعلومات المتعلقة بها التي اكتُشِفت في ذلك الوقت، وهو أول من توصل إلى أن سرعة الضوء أسرع من سرعة الصوت، وأول من وصف ظاهرة الكسوف والخسوف وصفًا علميًا دقيقًا.
– ابن النفيس: (ولد بدمشق عام 607هـ) الذي وصف الدورة الدموية وصفًا دقيقًا وشاملًا، وبذلك فهو مكتشف الدورة الدموية، وهو أول من أثبت أن رئة الإنسان هي المسؤولة عن تنقية الدم، وهو أول من وضَّح خطر الملح وأثره على ارتفاع ضغط الدم، وقد ألَّف العديد من الكتب، أهمها كتاب «الموجز في الطب»، و«الشامل في الصناعة الطبية».
– ابن سينا: (ولد في أوزبكستان عام 980هـ) الذي يعتبر المرجع الأول في الطب والصيدلة، إذ قام بالعديد من التجارب الطبية لتشخيص الأمراض والتوصل لعلاجاتها، وانفرد ابن سينا بكتابه الذي يتضمن أكثر من 750 وصفة علاجية، فهو أول من توصل لعلاج للالتهاب السحائي، وله جهود في طب الأطفال وعلم التشريح، كما كانت له إنجازات عديدة في علم الفيزياء، وكانت هي النواة التي يرتكز عليها الكثيرين من علماء الغرب وأوروبا.
فهل وقف الإسلام ضد هؤلاء العلماء ومنعهم من دراساتهم وأبحاثهم وأعلن الحرب عليهم كما فعلت الكنيسة في القرون الوسطى مع العلماء؟!
_________________________________
(1) المفصل في الرد على شبهات أعداء الإسلام، علي بن نايف الشحود، 1/ 216.
(2) أخرجه ابن ماجه (224)، وصححه الألباني.