قضية التعليم الديني واحدة من القضايا التي شغلت العقل المسلم على مدار قرنين، وقدمت في ذلك مقاربات ورؤى كثيرة من الإصلاحيين المسلمين استهدفت تطويره وجعله أكثر استجابة للمتغيرات المعاصرة، وفي السطور التالية أُبين جوهر هذا التعليم وخصائصه المميزة وسبل الإفادة منه.
نشأة التعليم الإسلامي وتطوره
بدأ التعليم الإسلامي في عهد الرسول صلوات الله عليه إذ كان يجلس للتدريس في المسجد، وكان تعليمه الناس على طريقتين؛ أن يملي على حاضري مسجده من القرآن والتربية الخلقية والمواعظ، وأن يجيب عن أسئلة السائلين، وكانت الدراسة مقتصرة على الازدياد من حفظ القرآن وضبط وجوه قراءته، وبعد وفاته تصدى أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم لبث العلوم ورواية سننه وإفتاء الناس.
أخذ التعليم الإسلامي في التطور على يد الفقهاء منذ أواخر القرن الأول الهجري، حيث التف حول كل منهم عدد من الطلبة، وعلى غرار المجالس العشائرية والقبلية، كانت هذه المجالس العلمية تأخذ شكل حلقة مستديرة يتوسطها الأستاذ أو الفقيه الذي يجلس على الأرض ويتحلق حوله جمع من الطلاب، ولم يكن يشترط لحضورها رسوم مالية أو طلبات التحاق سوى الرغبة التي يبديها الطالب وقبول الأستاذ.
وفي هذه الحقبة الباكرة لم يكن ثمة تمييز واضح بين مجلس الإفتاء وحلقة التعليم، فما يكاد المفتي يعلن فض مجلس الإفتاء حتى يفتتح مجلساً آخر للفصل في الدعاوى حيث يكون قاضياً يفصل بين المتنازعين، وما أن ينتهي حتى يفتتح مجلساً ثالثاً هو مجلس العلم، وربما أضاف إليها مهمة أخرى حين فراغه هي التدوين الفقهي، ولم يكن الفقهاء يتلقون أجراً من الدولة عن المهام الثلاثة الأولى: «الإفتاء، والقضاء، والتدريس»؛ ولأجل هذا احترفوا حرفاً أخرى تدر عليهم مالاً، وهو ما يعني انتماءهم إلى الشرائح المجتمعية الدنيا والوسطى، وأن العلم لم يمنحهم وضعاً طبقياً متميزاً، وظل هذا الوضع قائماً إلى حوالي القرن الرابع أو الخامس مع انتشار «المدرسة» في أنحاء العالم الإسلامي.
ويعد ظهور «المدرسة» أو معاهد العلم الكبرى التي أنشئت بدعم من الأوقاف أو الحكام التطور الأبرز في مسيرة التعليم الشرعي؛ لأنها مُوِّلت في كثير من الأحيان من قبل أوقاف السلاطين وأفراد الأسر الحاكمة، وأوضح مثال لذلك الوزير السلجوقي نظام الملك، مؤسس المدرسة النظامية في نهايات القرن الرابع، التي اجتذبت كبار العلماء، حتى إن الإمام أبو حامد الغزالي عمل مدرساً بها، وبعدها أخذ النموذج المدرسي في الانتشار في أرجاء العالم الإسلامي، وقد ترتب على ظهور المدرسة نتيجتان مهمتان؛ الأولى تأمين الموارد المالية للعلماء الذين تفرغوا للعلم الشرعي، والثانية منح الشرعية السياسية للحكام والأمراء الذين كانوا بحاجة ماسة إلى الشرعية، فكان العلماء عبر العصور وسيطاً بين الحكام وبين العامة، فضلاً عن أنهم كانوا مصدر الشرعية الدينية والأخلاقية لأي سلطة.
المناهج وطرق التدريس
وفي العصور الأولى، كان التعليم على درجتين؛ إحداها التعليم الابتدائي أو التأديب، ويسمى صاحبه «المؤدِّب»، وموضعه في الكتَّاب لخشيتهم من تشويش الصبية على المصلين وتنجيس المسجد، ويتلقى فيه الصبي حروف الهجاء ويلقن سور القرآن، وكان الصبية يكتبون في ألواح فإذا أتم الصبي حفظها محاها، وتسهيلاً للحفظ مالوا إلى نظم العلوم في أراجيز، وكان الأندلسيون أول من اهتم بذلك وتبعهم المغاربة، أما الدرجة الثانية وهي التعليم فوق الابتدائي؛ فكان يمارس في المسجد، وفيها يتم تلقي العلوم بالفهم وشرح المتون التي حفظت في التعليم الابتدائي، وكانوا يرتقون في دراستها من الكتب البسيطة إلى المعمقة، وكانت هناك طرق مختلفة للتعليم.
3 طرق للتعليم:
الأولى: كان كل عالم مختص بفن من الفنون يملي على الناس من غير مطالعة ولا مراجعة بفضل تضلعه في العلم، وهذا نهج المتقدمين الذين وضعوا «الأمالي».
الثانية: وهي التزام قراءة تأليف معين أو من الأمالي السابقة أو من الشروح، وهي الطريقة التي شاعت واستقرت فيما بعد.
الثالثة: طريقة السؤال والجواب، مثل طريقة سحنون في تلقيه عن عبدالرحمن بن القاسم أقوال مالك في المدونة.
وأما عن صفة الدروس فكانت حلقاً، فيجتمع الطلبة إلى الشيخ ليقرأ عليهم كتابه أو كتاب غيره، ويفسر لهم ما غمض من ألفاظه ومضامينه، وكان الطلبة يكتبون ما يسمعونه ويقيدونه في أوراق، وكانوا يميلون إلى حفظ القواعد ومفاتيح العلوم في بداية الطلب، ولم يكن هناك سن لانتهاء الطلب، فكان كل طالب وما يشعر في قرارة نفسه إذ تختلف قدرات التحصيل من إنسان لآخر، وقد استمر هذا النظام متبعاً عبر قرون في العالم الإسلامي دون اختلاف بين قطر وآخر.
الخصائص المميزة
احتفظ التعليم الشرعي بخصائصه ومميزاته، ويعود الفضل في ذلك إلى استمرارية الحلقة كأساس للنظام التعليمي، وتواصل التقاليد العلمية التي ميزته عن غيره من أنظمة التعليم الأخرى، ومن بينها:
– حسن التواصل بين أجزاء النظام: شكلت الحلقة أساس النظام التعليمي، بل ربما كانت تجسيداً مصغراً للنظام، وهي تتألف من ترتيب هرمي يتربع المعلم على قمته بوصفه أكثر أفرادها علماً ودراية، ويليه المساعدون من الطلبة المتقدمين الذين ينهضون ببعض المهام التدريسية لمن هم دونهم، وأخيراً الطلبة من ذوي المستوى العلمي المتوسط والمحدود، وكان حسن التواصل بين المعلم وطلابه أهم معْلَم للحلقة، حتى إن العلاقة بينهما كانت تشبه علاقة الأب بأبنائه، وكثير من الطلاب أقاموا في بيت معلميهم وطعموا من طعامهم وتزوجوا من بناتهم.
– مركزية الأخلاق: إذ لم يكن المعلم مجرد أستاذ مختص في تدريس فن معين، وإنما هو قدوة ونموذج أخلاقي في المقام الأول، لقد كانت الأخلاق والورع والتقوى أجزاء من المنهج التعليمي لا تقل أهمية عن أي جزء من أجزاء المنهج الأخرى.
– الحرية وغياب الإلزام: وتتجلى في تمتع الأستاذ بالحرية الكاملة في اختيار الفن المراد تدريسه، وربما جمع بين أكثر من فنين أو ثلاثة، واختيار المتون والشروح المناسبة دون أي قيود، لكن المتون كانت أكثر تفضيلاً، كما كان الطالب حراً في اختيار الأستاذ والكتاب الذي يود حضوره.
– الذاتية: وتعني أن النظام التعليمي كان يصطبغ بالصفة الذاتية لا المؤسسية، فالطالب له حق اختيار الأستاذ والكتاب الذي يود دراسته ويتسق مع ميوله وقدراته الذهنية، والإجازة التي ينالها الطالب حين ينتهي من قراءة كتاب معين، تصدر باسم الأستاذ لا المؤسسة التعليمية التي كان ينظر إليها باعتبارها لا تملك حق منح هذه الإجازات.
– انخفاض التكلفة ومراعاة البيئة: وهما خاصتان مميزتان للتعليم الإسلامي، فالدارس لا يكاد يتكلف إلا قليلاً إذ لا توجد مصروفات يقدمها الطالب، بل إن الطالب والأستاذ يتلقيان من الأوقاف ما يكفل لهما التفرغ للطلب، كما يقوم الطلاب الصغار بالكتابة على ألواح حجرية وإعادة استخدمها مراراً وهو بهذا المعنى نظام صديق للبيئة لا يستهلك أوراقاً أو أحباراً أو أقلاماً، أما الكبار فكانوا يستعيرون ما يريدون من المكتبة الوقفية، كما كانوا يدونون أكثر من كتاب في مجلد واحد، إذ كان هامش الكتاب يتسع أحياناً لكتاب آخر.
وبالنظر في هذه الخصائص، يمكن القول: إن ثمة عناصر يمكن الإفادة منها في تطوير نظام التعليم الحديث، وفي مقدمتها حرية الطالب في اختيار المواد التي يريد، وتوسيع قاعدة المواد الدراسية التي يمكن الاختيار من بينها؛ بحيث تراعي الفروق الفردية بين الطلاب واختلاف الميول، ومنها كذلك منح الطلاب حق تقييم الأستاذ بحيث يكون هذا التقييم أساساً لاستمرار الأستاذ أو استبعاده إن تكرر تقييمه بشكل سلبي بضع مرات، ومنها تقليص الاختبارات بحيث تكون على فترات متباعدة، واعتماد وسائل أخرى لتقييم مستوى الطالب، وأخيراً تقليل الاعتماد على الأقلام والدفاتر واللجوء إلى الأجهزة الإلكترونية الحديثة لأجل خفض التكلفة.
_____________________________________________________
باحثة ومؤرخة مهتمة بالدراسات الإسلامية، حاصلة على الدكتوراة في الآداب.