يُعدّ عماد الدين زنكي أول قائد سلجوقي قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين؛ ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي الذي لم توقِفْهُ المحاولاتِ الجدية التي سبقت زنكي، وبخاصة تلك التي تمت على أيدي كل من مودود بن التونتكين (502 – 507هـ)، وإيلغازي وبلك الأرتقيين (518 – 520هـ).
وقد مهد عماد الدين زنكي الطريق لقادة التحرير من بعدهِ، فلم تكن جهود ابنه نور الدين محمود، ومن بعده صلاح الدين الأيوبي، سوى إتمام العمل الذي بدأه عماد الدين زنكي وفي الطريق ذاته.
يمكن القول: إن عماد الدين زنكي استطاع أن يحقق قسطاً كبيراً من برنامجه، وأن يكوِّن لنفسه مكانة خاصة في التاريخ الإسلامي كسياسي بارع، وعسكري متمكن، ومسلم واعٍ، أدرك الخطر الذي أحاط بالعالم الإسلامي من قبل الصليبيين، فقد استطاع أن يوجه الظروف التاريخية القائمة لصالح المسلمين، وذلك بتجميعه القوى الإسلامية بعد القضاء على عوامل التجزئة والانقسام وتوحيد المدن والإمارات المنفصلة في نطاق دولة واحدة، استطاع بمقدرته أن يستغل أقصى ما يمكن أن تقدمه من إمكانات في سبيل تحقيق برنامجه المزدوج؛ أي: تشكيل الجبهة الإسلامية، وضرب الصليبيين.
ويظهر للقارئ في التاريخ الزنكي من خلال علاقة عماد الدين زنكي بالقوى الإسلامية كإمارات المدن، والإمارات المحلية في الجزيرة والشام، والقبائل الكردية، والتركمانية مدى قدرته السياسية وبراعة خططه العسكرية خلال علاقاته السلمية والحربية مع هذه القوى المنبثة في المنطقة، فهو من الناحية الرسمية كان قد تسلم من السلطان السلجوقي محمود بن محمد بن ملكشاه عام 522هـ منشوراً يقر سلطته الشرعية على الموصل، والجزيرة، والشام، وقد تأكد هذا المنشور خلال الأعوام التالية، إلا أنه لم يكن كافياً لتثبيت سلطته الفعلية في هذه الفترة التي استطاع فيها عدد كبير من الأمراء أن يفرضوا سلطتهم على عدد لا يحصى من المدن والأقاليم مستقلين إلى حد كبير عن السلطة السلجوقية، ومستفيدين من مجموعة من العوامل الشخصية، والسياسية، والجغرافية، والاقتصادية، والبشرية، فكان لا بُـدَّ لزنكي إذاً من إخضاع هذا العدد الكبير من السلطات المتمركزة في المنطقة، ومن اختيار أسلوب الهجوم مُنذ البداية بالرغم مما يحيق بهذا الأسلوب من أخطار:
أولها: احتمال تشكيل حلف دفاعي مضاد من الأمراء العاديين، وقد يتحول هذا الحلف فيما بعد إلى حلف هجومي، كما حدث بالنسبة للأراتقة.
وثاني تلك الأخطار: عدم وجود خط رجعة في حالة انكساره، أو انسحابه أمام الأمراء المحليين الذين كانوا يحيطون به إحاطة السوار بالمعصم.
إلا أنه لم يأبه لهذه الأخطار، وراح يهاجم الأمراء المحليين مُنذ البداية، دفعه إلى ذلك طموحه وشجاعته الشخصية، واطمئنانه إلى قاعدة شعبية تحبه وتخلص له ولمواقفه السابقة تجاه الصليبيين قبل أن يتولى الحكم في الموصل، كما ساعده على ذلك منشور السلطان، آنف الذكر بتسلم الموصل، والجزيرة، والشام، وما كان يتضمنه من اعتراف بحرية زنكي في الاشتباك مع التشكيلات السياسية المحلية واكتساحها، والتوصل بأي وسيلة يراها مناسبة لتحقيق هذا الهدف. (عماد الدين زنكي، ص 165).
لكن الأهم من ذلك كله ما تمتع به زنكي من مقدرة سياسية، وعسكرية، وما تميز به من نظر بعيد؛ ذلك: أنه عرف -مُنذ البدء- أنه إذا ما سلك سبيل المسالمة والتودد تجاه الأمراء المحليين؛ فإن حصونهم ومدنهم وإماراتهم ستظل تشكل عوامل خطر ضد إمارته لقربها منها، ولإستراتيجية مواقعها؛ إذ تشكل نقاط تسلط مرتفعة، انحدارها باتجاه الموصل، وخطوطها الخلفية سلاسل جبلية، وأنهار متشابكة، وحصون منيعة.
كما أن السياسة الانعزالية التي اتبعها أولئك الأمراء تجاه الخطر الصليبي المتقدم نحو الشرق، وما تبع ذلك من تشتيت لإمكانات المسلمين البشرية والعسكرية والاقتصادية أدت إلى عجز هذه الإمارات عن الوقوف بوجه هذا الخطر الصليبي الزاحف، هذا في الوقت الذي كان على زنكي فيه أن يعمل على إزالة العقبات التي تقف أمام توحيد الإمارات المتفرقة، المبعثرة، في جبهة إسلامية موحدة تستطيع أن تُوقِفَ الزحف الصليبي، ومن ثم تبدأ بالهجوم المنظم على قواعد الصليبيين.
هذه العوامل التي دفعت زنكي إلى اتّباع سياسة الهجوم، التي تخللتها أحياناً علاقات سلمية ومعاهدات استدعتها طبيعة الظرف الذي كان يمرُّ فيه، وفي الوقت نفسه عمل زنكي على تأمين حدود إمارته باتجاه الشرق، والشمال الشرقي؛ حيث يشكل الأكراد والتركمان في هذه المناطق عناصر خطر بالغة ضد إمارته، لا سيما عند تأزم علاقاته بالإمارات الغربية، أو عند توغله بعيداً عن مقره في الموصل.
ومن ثم تبدو لنا واضحة أهمية الدور الذي مارسه زنكي في التاريخ الإسلامي؛ إذ يعتبر أول قائد قام بتجميع القوى الإسلامية وفق برنامج معين ليجابه بها تزايد الخطر الصليبي؛ الذي لم توقفه المحاولات الجدية التي سبقت زنكي، وبخاصة تلك التي تمت على يد كل من مودود بن التونتكين، وإيلغازي، وبلك الأرتقيين، وآق سنقر البرسقي (518- 520هـ). (عماد الدين زنكي، ص 166).
ومن المرجح أنه لو تمكن زنكي من فتح دمشق، وإنجاز محاولته لتوحيد الشام، ولو لم يقتل -وهو في قمة انتصاراته ضدَّ الصليبيين- لكان قد استطاع أن يستكمل الأجزاء المتبقية من برنامجه، ولتكاملت أمام الباحث الحديث الصورة الواضحة للدور الذي قام به في التاريخ الإسلامي، وهو دور فاصل تتضح خطورته إذا عرفنا أن نور الدين محمود، ومن بعده صلاح الدين لم تكن جهودهما سوى إتمام العمل، الذي بدأه عماد الدين زنكي، وفي نفس الطريق.
__________________________
1- عماد الدين زنكي، علي محمد الصلابي.
2- الدولة الزنكية، علي محمد الصلابي.