على مَـرِّ عصور الحياة على الأرض، كانت للإنسـان محاولات عديدة لبناء بيته، جرب خلالهـا أنماطًا مختلفة من حيث التصميم والشكل والمواد المستخدمة في البناء، ومن أفضل نماذج البيوت والأبنية التي اتخذها الإنسان لنفسه عبر التاريخ «الخيمة»!
ما الذي يجعل الخيمة بناء نموذجياً؟! وما الدليل على ذلك؟ وهل حقًا ستصبح الخيام بناء المستقبل؟!
مزايا الخيمة
الخيمة من بيوت الإنسان التي ارتبطت بالبداوة والحياة في الصحراء، وسِرُّ ذلك أن الخيمة سهلة التركيب وسهلة الحلّ (الفكّ)، وكثرة الترحال ضرورة تفرضها حياة البداوة، التي تقوم أصلاً على الرعي، وبالتالي السعي في طلب الكَلَأ (العُشْب)،
من مزايا الخيام القديمة سهولة الصنع وقلة التكاليف، لذا كان يسيراً على الفقير أن يجد له مأوى، مثله مثل الغني، فإذا بليت الخيمة، فليس أيسر من اتخاذ غيرها، فمكونات الخيمة بسيطة، وثمنها زهيد.
ثم إن الخيمة، على النقيض من أنماط المعمار التي تلتها، لا تحتاج إلى صيانة وتعهد بالرعاية! ومعنى ذلك توفير كثير من النفقة، وكثير من الجهد والوقت، وربما لم يكن الإنسان في العصور الخالية بحاجة ماسة إلى الوقت كحاجة الإنسان المعاصر! إلا أنّ ذلك وفَّـرَ له وقتاً لتعلم الفروسية، ووقتاً للتأمل في الطبيعة من حوله، ووقتاً أطول للراحة والاسترخاء! ولا عجب والحال كذلك، أنْ كان من سكان الصحراء الفرسانُ والشعراءُ والفلاسفةُ.
والحياة في الخيمة حياة بسيطة تخـلو من تعقيد الحياة بين الأبنية الحجرية، ولعل هذه البساطة عند إضافتها إلى العناصر السابقة، تكون سبباً في تحرّر سكان الخيام من العقد والأمراض النفسية التي يصاب بها سكان المدن الحديثة!
على أن أهم مزايا الخيمة هو حماية سكان الصحراء من حرارة الشمس الشديدة في تلك البقاع، فالقماش السميك، أو جلود الماشية أو صوف الغنم، الذي تصنع منه الخيام، يسمح لضوء الشمس بالنفاذ إلى الخيمة دون أن يسـمح للحرارة بذلك! لذا تكون الخيمة من الداخل رطبة الهواء، حتى في حرارة الصيف المحرقة! هل بين سائر البيوت والأبنية التي يتخذها إنسان اليوم ما يجمع كل تلك المزايا؟!
النموذج الأولى
مزايا الخيمة جذبت انتباه المشتغلين بهندسة المعمار، منذ مطلع الخمسينيات من القرن العشرين، وليس يخفي أن التقدم الصناعي في سائر الحقول يمكن أن يوفر اليوم من مواد بناء الخيام ما لم يمكن توفيره بالأمس البعيد، فتقدم صناعة النسيج يـوفر أنواعاً من القماش فائقة المتانة، فضلاً عن توفير أقمشة بمواصفات خاصة لصنع الخيام، كأن يكون القماش غير منفذ لماء المطر، أو أن يسمح بمرور مقدار معين من حرارة الشمس، إلى غير ذلك من المواصفات، كما أن مصانع الحديد والصلب يمكن أن توفر أوتادّاً من الفولاذ، وسلاسل معدنية، مكان أحبال الأمس، وهناك الأجهزة التي تعين على توفير أفضل الظروف المعيشية داخل الخيمة، مثل أجهزة قياس ضغط الهواء ونسبة الرطوبة وغيرها، علاوة على ضمان صمود بناء الخيمة في وجه الرياح القوية والظروف الجوية غير المواتية، وفوق هذا وذاك، هناك الكمبيوتر الذي يعين في اختيار أفضل تصميم للغرض الذي من أجله تبنى الخيمة.
وجدير بالذكر أن النماذج الأولى من خيام النصف الثاني من القرن العشرين كان الغرض منها تغطية مساحات واسعة لمنشآت مختلفة، كبديل للسقوف الحجرية التقليدية التي تكلف عادة مبالغ باهظة.
من أولى الخيام الكبيرة التي أقيمت كبديل لبناء تقليدي، «المسرح المدور» في شمال كارولينا بالولايات المتحدة الأمريكية، وقد أقيمت الخيمة في عام 1953، وسقفها على هيئة سـرج الفرس، وتلى ذلك إقامةُ حلبة للتزلج على الجليد، بالقرب من ملاعب جامعة ييل في ولاية كونكتيكت الأمريكية، في عام 1958، وخيمة التزلج على الجليد أقيمت على هيئة قبة عالية مشدودة على حائطين من الأسمنت عند الجانبين.
مطار جدة
أفادت الخبرة التي أمكن جمعها من النماذج الأولى، في بناء خيام ضخمة، تعتبر بحق مثلاً فريداً من أمثلة المعمار الحديث، وما يتضمنه ذلك من تقدم في صناعة كل مواد البناء، ولعل «محطة الحجاج» في مطار جدة في المملكة العربية السعودية، أفضل مثال لذلك.
اشـتركت 3 دول في إنتاج المواد اللازمة لبناء خيمة الحجاج في مطار جدة، فالنسيج (القماش) صنع في الولايات المتحدة، والسـلاسـل المعدنية في فرنسـا، وأبراج الأسلاك (وهي الأعمدة من الصلب التي تثبت في السلاسل المعدنية) صنعت في اليابان.
نسيج الخيمة مصنوع من ألياف زجاجية رفيعة جداً، والخيط الواحد في هذا النسيج أرفع 6 مرات من خيط الحرير، وأقوى من خيط من الصلب في نفس السمْك (الثخانة)! وقد يكون طريفاً أن نذكر أن نفس النوع من النسيج استخدم في صنع حلة (بدلة) الفضاء التي ارتداها الرواد الأمريكيون في رحلة الهبوط على سطح القمر.
وعلى السـطح الخارجي مـن قماش (نسيج) الخيمة، طبقة رقيقة من مـادة راتينجية (شبه صمغية) هي نفسها التي تستخدم في طلاء أواني الطهي لمنع التصاق الأطعمة بها، وتعرف هذه المادة بالاسم الشائع «تيفلون (اسمها العلمي polytetrafluoro – ethylene)، وتعرف اختصاراً بالحروف «PTFE».
ومادة «تيفلون» مقاومة للحرارة، ومعامل احتكاكها منخفض، فضلاً عن خاصية عدم الالتصاق، الأمر الذي يجعلها مادة جديدة من مواد البناء، فعند تغطية سطح بناء بهذه المادة، فإن الأتربة لا تعلق به، كما أن نعومة السطح التي توفرها مادة «تيفلون» تؤدي إلى انزلاق مياه المطر بسرعة من فوق السطح، هذا بالإضافة إلى أن القماش المغطى بهذه المادة يكون غيرَ منفذٍ للماء! وبينما تنمو الطحالب على سطوح معظم الأبنية الحجرية التقليدية، بسبب ترسب بعض مياه الأمطار على تلك السطوح، فإن السطح المغطى بمادة «تيفلون» لا يسمح للطحالب بالنمو، نتيجة صرف الماء أولاً بأول، وبسبب ملاسة «نعومة السطح» حيث لا تتمكن الطحالب من التعلق بشيء!
بناء المستقبل
مع تعدد المنشآت وتنوع أغراضها صارت هناك معرفة أكبر بهندسة الخيام، وإدراك أوسع لمزايا الخيمة، كما أن تكاليف إنتاج مواد بناء الخيام تقل مع الأيام بسبب اتساع سوقها.
ويعتقد أن الخيمة توفر الحل الأمثل للمنشـآت الضخمة، مثل تجمعات الأســواق، وحدائق الحيوان، والنوادي الرياضية، وليس أدل على ذلك من أن مهندسي المعمار الذي نيط بهم (كُلِّفوا) إقامة مجمع الأسواق في مدينة ميامي الأمريكية، اختاروا أن يكون المبنى خيمة!
وفي ولاية فلوريدا بالولايات المتحدة، أقيمت قاعة للاحتفالات على هيئة خيمة ذات 3 قبب، وترتفع كل قبة على صارية معدنية طولها 30 متراً، وتعرف قاعة الاحتفالات باسم «القاعة البهيجة»؛ بسبب جمالها من الداخل والخارج، وقد صمدت هذه الخيمة في مواجهة أعاصير ورياح قوية عاصفة!
وبعد، فإن كل الدلائل تشير إلى أن الخيمة بناء عملي – وشاعري كذلك، فهي كبيت وفرت لساكن الصحراء حماية من مناخ الصحراء القاسي، وكبناء ضخم، ثبت أنها أقل تكلفة من البناء الحجري التقليدي، علاوة على احتفاظها بخصائصها العملية والشاعرية.
ومع اطراد التقدم في صناعة مواد الخيام، ورخص الأثمان وقـلة التكاليف، فمن المنظور أن ينتشر بناء الخيام بمعدل أكبر وعلى نطاق أوسع، ليس فحسب في المنشآت العملاقة، وإنما في المنازل الصغيرة كذلك، وقـد تظهر الخيام قريباً في معسكرات الاصطياف كبديل لسيارات النوم باهظة الثمن، وعما قريب، ستعود الخيام مسكنا للإنسان بعد أن كادت تنقرض، فاعجبْ لبناء الماضي يصبح بناء المستقبل!