لقد اختطت خرائط المعرفة في الحضارة العربية الإسلامية مواقع ممتدة منيرة لكلام النبوة، حتى وصل الأمر إلى تأسيس حقول معرفية مستقلة، تعكف على فحصه ودراسته من الجوانب المتنوعة.
وكان المدخل اللغوي والبياني أساساً صلباً في سياقات هذا التأسيس، فتأسست علوم متضافرة من مثل: غريب الحديث النبوي، وحل مشكلات الصحيح التركيبية، والمجازات النبوية، وأمثال الحديث.
واستمرت وجوه العناية بكلام النبوة مع الزمان، وتطورت وأنتجت في العصور اللاحقة حقولاً معرفية جديدة كالأدب النبوي، والبلاغة النبوية.
نمط فريد
ولقد دأب الدارسون في فحصهم لخصائص كلام النبوة على الانطلاق من الإيمان بأن أحد المعايير المنهجية في التعامل معه ماثل في أنه وجه مترجم عن فصاحته التي ثبتت للنبي الكريم بصحيح أحاديث الشمائل.
وقد استقر ما ناتج هذا الفحص النظر إلى كلام النبوة بحسبانه ثاني أعلى مصادر الاحتجاج اللغوي حجية بعد الكتاب العزيز، به تأسس الدلالة في المعجم، وبه تثبت القواعد في التراكيب.
والحقيقة أن الأمة مدينة لمصطفى صادق الرافعي (ت 1356هـ/ 1937م) بما استخلصه من سمات الكلام النبوي وسطره في كتابه المهم «إعجاز القرآن والبلاغة النبوية» (القاهرة، 1997م ص 282- 286).
والدخول إلى كشف ملامح الإبداع اللغوي في خطبة الوداع يعتمد على 3 أصول ودعائم، هي: تفرد معجم كلام النبوة وأساليبه، والخلوص إلى القصد من أقرب طريق، والاستيفاء والاستيعاب والبسط للمعاني المرادة.
الطرق إلى عمران العالم.. موجز خطاب خطبة الوداع
والحقيقة أن خطبة الوداع بما هي حديث صحيح مثال فذ على إرادة ترسيم الطريق إلى عمران العالم، وحياطة هذا الترسيم بما يضمن حفظه وصيانته والقيام على خدمته.
تفتتح الخطبة أمرها بتعيين المخاطبين، وتوسيع دوائرهم وردهم إلى الأصل البيولوجي الجامع الذي يجمعهم بآدم أبي البشر عليه السلام عندما تقول: «أيها الناس»، والحقيقة أن افتتاح النص النبوي الخاتم يتكافل مع الكتاب العزيز الذي كان ختامه في المصحف الشريف هو توجيه الخطاب إلى الناس في سورة «الناس»!
ليستقر في العقل البشري أن الإنسانية هي المركز الذي ينبغي أن تتضافر الجهود للعناية بها ورحمتها.
وتتعالن في هذا المفتتح عوامل ما به التنبيه لخطر الرسالة المجموع لها الناس بالأمر الذي جاء في الجواب: «اسمعوا»، وحياطة الأمر المباشر بالتلقي والحمل من أصرح طرقه وأوثقها وهو السماع باستثارة العاطفة النبيلة نحو مقام النبي الأكرم صلى الله عليه وسلم: فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، وتنطلق خطة ترسيم الطريق إلى عمران العالم معتمدة على الأسس الآتية:
خطة تحقيق سلام العالم هو الضمان الأول للتنمية والعمران، لقد نبه الحديث الشريف أو خطبة الوداع إلى حياطة الأركان الضامنة لتحقيق التنمية والعمران في التصور الإسلامي من خلال:
– تحريم الدماء.
– تحريم الأموال، فقالت الخطبة: «إن دماءكم وأموالكم عليكم حرام».
وأيدت هذا الحكم على امتداد الزمان بقرينة زمانية واضحة عندما قيدت حكم التحريم بحده الزماني المعلن بقوله: «إلى أن تلقوا ربكم».
صيانة التوحيد هو الخطوة المركزية الضامنة لحماية أصول التنمية
وانتقلت الخطبة الشريفة إلى الإعلان عن مركز حماية أصول التنمية والعمران عندما حذرت من الشرك بكل أصنافه، وأنواعه ودرجاته فقال: «إن الشيطان قد يئس أن يعبد بأرضكم هذه أبداً»، ولكنه إن يطمع فيما سوى ذلك فقد رضي بما تحقرون من أعمالكم فاحذروه على دينكم.
والتحذير من الشيطان نقطة مركزية ضامنة لتحقيق العمران والتأنس على قاعدة التزكية الأخلاقية التي تنبثق من التوحيد الإيجابي الذي يضبط حركة الإنسان في الحياة ويقيمها على أسس الإخلاص لله، والرحمة بالخلق.
التزكية الخطوة الكاشفة والمقومة لمسيرة العمران في العالم حتى إذا فرغت الخطبة من بيان أسس التنمية والعمران (حفظ الإنسان والمال)، وعينت الضابط المركزي المحقق لهذا الحفظ وهو الحذر من الشيطان، انتقلت إلى بيان ما به الكشف عن تقييم حركة العمران على ميزان الله والإسلام، وهو أمر التزكية، والتراحم، ورعاية مناطق الضعف الإنساني، وهو ما مثلت عليه الخطبة عندما دعت إلى رحمة الضعف الإنساني والإحسان إليه عندما دعت إلى أن «استوصوا بالنساء خيراً، فإنهن عندكم عوان (أي أسيرات) لا يملكن لأنفسهم شيئاً».
وهذه الدعوة مفتتحها محاصرة الاستبداد والتسلط.
والحقيقة أن هذه الخطبة الشريفة من المنظور المعجمي والتركيبي والنصي كشفت عن كل خصائص الكلام النبوي المبدع الذي أبدع في اختيار الكلمات الفريدة الجامعة القريبة، الذي أبدع في بناء التراكيب على قاعدة الخلوص إلى المقصود من غير تعقيد، ولا فضول، واستوعب ما به عمران العالم من طريق حفظ أصول التنمية والعمران، وحياطة هذا الحفظ بالتحذير من الشيطان، والكشف عن منهج التقويم والمتابعة الماثل في درجة التراحم والعطف على مناطق الضعف الإنساني وعدم الاستبداد بهذه المناطق.