كلما كانت أهداف الإنسان واضحة ويضعها أمام عينه دائماً؛ كان أكثر تركيزًا، وأشد حرصًا على الوصول لغايته، فمهما كثرت المشتتات تكون أهدافه كبوصلة تهديه فلا يضل طريقه، ولذا وضح الإسلام للآباء أهدافهم كمبادئ أساسية تربوية، وترك ما دون ذلك من أدوات ممكنة من زمن لزمن ومن بيئة لبيئة تبعاً لكل حالة وما يناسبها.
1- عبادة الله:
جعل أول مبدأ هو تعبيد الأولاد لله ولزوم توحيده، فيقول القرآن حكاية عن لقمان الحكيم: {وَإِذْ قَالَ لُقْمَانُ لِابْنِهِ وَهُوَ يَعِظُهُ يَا بُنَيَّ لَا تُشْرِكْ بِاللَّهِ ۖ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ} (لقمان: 13)، ثم يرسخ القرآن لهذا المبدأ ويؤصله في النفس بذكر مشهد يعقوب عليه السلام يوصي أولاده حال احتضاره: {أَمْ كُنتُمْ شُهَدَاءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قَالَ لِبَنِيهِ مَا تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قَالُوا نَعْبُدُ إِلَهَكَ وَإِلَهَ آبَائِكَ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ إِلَهًا وَاحِدًا وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ} (البقرة: 133)، في بيان أن فلاح المرء هو ثباته على التوحيد في قصده وفعله، وهذا غاية التربية في الإسلام، فحينما يدخل العبد إلى قبره لن يُسأل عن مهنته أكان طبيبًا أو مهندسًا أو خفيرًا، ولن يُسأل عن ماله ومنزلته الاجتماعية، بل سيُسأل عن عبوديته لله واستسلامه لأوامره، وهذا المبدأ على بساطته وبداهته إلا أنه يضيع كثيرًا من الأحيان في زحام الحياة، فتجد همّ الآباء الشاغل هو تحصيل أبنائهم لأعلى الدرجات في دراستهم لتحصيل الوظيفة والمال ثم يجعلون تعلم الدين والعمل به مرتبة ثانية -إن وُجدت أصلًا- في هذا ظلم كبير من الآباء للأبناء مع ظلمهم أنفسهم، فإنه إن صلح دين الأبناء صلحت كل حياتهم تباعاً، ولن يجد المربي نفسه بعدها، مثلًا، مضطرًا لإلحاقه بدورات يتعلم فيها أهمية الوقت وتنظيمه لأنه بنفسه سيثمنه حينما يعلم أنه محاسب «عَنْ عُمُرِهِ فِيمَا أَفْنَاهُ»، ولن يحتاج إلى دفعه لإتقان عمله، كالمذاكرة وغيرها، بل سيجد ابنه يتقنه لعلمه «إنَّ اللهَ تعالى يُحِبُّ إذا عمِلَ أحدُكمْ عملًا أنْ يُتقِنَهُ»، وكذلك الحال في بره والديه وصلة رحمه.. إلخ مما يتمنى أي أب أن يراه في ابنه، فإذا روي قلب الابن بالدين أزهر في كل بستان من حياته ما يشرح صدر أبيه من طيب عطره وحسن منظره!
2- تهيئة الطفل لتحمل المسؤولية:
ورد الكثير من الأحاديث النبوية تحث على تهيئة الطفل والعناية بكل ما يساعده للقيام المقاصد الشرعية وأولها العبادة، وذلك من أول وقت ميلاده، فتجد أن أول ما يقرع أذن المولود هو الأذان والإقامة، وفي ذلك يقول ابن القيم رحمه الله في كتابه «تحفة المودود بأحكام المولود»: «وسر التأذين والله أعلم: أن يكون أول ما يقرع سمع الإنسان كلماته –أي كلمات الأذان– المتضمنة لكبرياء الرب وعظمته والشهادة التي أول ما يدخل بها في الإسلام فكان ذلك بمثابة تلقينه لشعار الإسلام عند دخوله إلى الدنيا كما يلقن كلمة التوحيد عند خروجه منها وغير مستنكر وصول أثر التأذين إلى قلبه وتأثره به وإن لم يشعر مع ما في ذلك من فائدة أخرى وهي هروب الشيطان من كلمات الأذان وهو كان يرصده حتى يولد فيقارنه للمحنة التي قدّرها الله وشاءها فيسمع شيطانه ما يضعفه ويغيظه أول أوقات تعلقه به، وفيه معنى آخر وهو أن تكون دعوته إلى الله وإلى دينه الإسلام وإلى عبادته سابقة على دعوة الشيطان، كما كانت فطرة الله التي فطر الناس عليها سابقة على تغيير الشيطان ونقله عنها ولغير ذلك من الحكم».
ثم فتجد منها ما يأمر بتعليمه الصلاة في سن السابعة ليتعود عليها فيقوم بها وقت البلوغ في قول النبي صلى الله عليه وسلم: «مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عَشْر، وفرقوا بينهم في المضاجع» (رواه أحمد وأبو داود)، وتجد مشاركتهم في مجالس الكبار ليكونوا نقلة الدين فيما بعد كحال عبدالله بن عباس، وعبدالله بن عمر، والحسن، والحسين ابنا علي، رضي الله عن الجميع/ وغيرهم، وقد ولي الرسول صلى الله عليه وسلم عمرو بن سلمة إمامة قومه في الصلاة وهو ابن 6 أو 7 سنين لأنه أقرأهم للقرآن، وأرسل صلى الله عليه وسلم أنسًا رضي الله عنه له في حاجة وجعلها سراً بينهما فكتمها حتي عن أمه، وهذا من تهيئة الطفل لتحمل المسؤولية وإشعاره بالثقة وإعداده لتحمل مسؤولياته حين الكبر.
3-حاجة الطفل إلى اللعب:
فكما أن الإسلام جعل الآباء يحرصون على تهيئة الطفل لتحمل المسؤولية، جعلهم أيضاً يحرصون على إعطائه حقه وفرصته في اللعب، فعَنْ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا قَالَتْ: «كُنْتُ أَلْعَبُ بِالْبَنَاتِ عِنْدَ النَّبِيِّ صلى الله عليه عليه وسلم، وَكَانَ لِي صَوَاحِبُ يَلْعَبْنَ مَعِي، فَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم إِذَا دَخَلَ يَتَقَمَّعْنَ مِنْهُ فَيُسَرِّبُهُنَّ إِلَيَّ فَيَلْعَبْنَ مَعِي»، فإن كان هذا حرص النبي صلى الله عليه وسلم على لعب زوجته لصغر سنها، فكيف يكون حرص الآباء على لعب أطفالهم وتهيئة الأجواء المناسبة وعدم الضجر والملل من لعبهم مع أقرانهم.
4- العدل بين الأبناء:
حرص الإسلام على جعل العدل بين الأبناء مبدأً أساسيًا في التربية لما يترتب عليه من تراحم وود داخل الأسرة، على عكس ما يحدث في حال التفرقة بين الأبناء من غيرة وحقد وتخاصم، فهذا مما يضر بتماسك وترابط الأسرة المسلمة، وقد جاء عن النعمان بن بشير أن أباه أعطاه غلاماً فقالت أمه: لا أرضى حتى يشهد رسول الله عليه الصلاة والسلام، فذهب بشير بن سعد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وأخبره بما فعل فقال: «أكل ولدك أعطيته مثل ما أعطيت النعمان»، فقال: لا، فقال الرسول: «اتقوا الله واعدلوا بين أولادكم».
وعن هذا المبدأ يحدث كثير من الخلط بين العدل والمساواة، فالعدل أن تعطي كل ذي حاجة حاجته دون تمييز في قدر زائد أو تدليل زائد عن باقي الإخوة، ومن الأمور المعينة على ترابط البيت هو إيصال هذا المعني للأولاد ليفهموا أن كلاً منهم له احتياجات حسب سنه، فالطفل ذو السنوات الثلاث يأكل اللحوم والطعام، ولكن المولود الصغير ليس له إلا الرضاعة، فهل يعني هذا أنها لا تعدل بين الكبير والصغير لأنها لم تساو بينهما؟! بالطبع لا، ومع الوقت والتكرار سيدرك الأطفال هذا المفهوم.
5- البناء الأسري:
جعل الإسلام البناء الأسري بناءً واضح المعالم ليكون مستقراً، مما يسهم في إعداد بيئة تربوية تخرج أبناء أسوياء نفسياً واجتماعياً وخلقياً وروحياً، فرغب، من بداية الأمر في الزواج من المرأة الصالحة؛ «فاظْفَرْ بذاتِ الدِّينِ، تَرِبَتْ يَداكَ»، ورغب في الزواج من صاحب الدين والخلق؛ «إِذَا خَطَبَ إِلَيْكُمْ مَنْ تَرْضَوْنَ دِينَهُ وَخُلُقَهُ فَزَوِّجُوهُ»، وجعل القوامة للرجل لتكون السلطة بيد الأب لا ينازعه فيها أحد؛ {الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء} (النساء: 34)، وذلك حتى تستقيم الأمور، على الرغم من أنه جعل الأمور التربوية شوري بين الأب والأم حتى فيما يخص فطام الطفل حرصاً على مصلحة الأطفال فقال تعالى: {فَإِنْ أَرَادَا فِصَالًا عَن تَرَاضٍ مِّنْهُمَا وَتَشَاوُرٍ فَلَا جُنَاحَ عَلَيْهِمَا} (البقرة: 233)، وليس التشاور في أمور التربية فقط، بل هو مبدأ عام، إذ إن الرجل قد يستشير زوجته فيما أهمه كما فعل النبي صلى الله عليه وسلم حينما استشار زوجته في صلح الحديبية، ولكنه جعل في النهاية القوامة للرجل كي يستقيم البيت على رأي واحد في حال اختلفت الإرادات، وجعل أمان تلك القوامة على تخير الزوج الصالح دينًا وخلقًا، فإن من خشي الله فإنه سيتقيه في زوجته وماله وولده.