هجرة النبي صلى الله عليه وسلم إحدى المعجزات العظيمة التي حدثت لنبينا صلى الله عليه وسلم، التي يجب أن تدرَّس في مدارسنا وجامعاتنا، وأن يحفظها أبناؤنا عن ظهر قلب، فهو الحدث الأعظم في تاريخ البشرية، من حيث التفكير، والترتيب، والتنفيذ، والدقة، وتحقيق الهدف كاملًا، وتعجيز العدو وشل أركانه وهو في كامل عدده وعدته، أضف إلى ذلك ما فيه من معجزة ربانية عظيمة أيَّد الله تعالى بها نبينا محمداً صلى الله عليه وسلم.
هذا الحدث الذي مزج بدقة عالية بين الأخذ بالأسباب، الذي تم على أكمل وجه من النبي صلى الله عليه وسلم والمجموعة التي اشتركت معه في الحدث، والتوفيق الإلهي، والعناية الربانية، التي كانت تتدخل في اللحظات التي يعجز فيها النبي صلى الله عليه وسلم ببشريته عن التصرف بعد استنفاد الأسباب.
فلقد خطط المشركون للقضاء على النبي صلى الله عليه وسلم، ووضعوا له خطة محكمة تقضي لقتله دون قصاص على أحد، ليرضى بنو عبد مناف بالدية، وأعدوا عدتهم، وجهزوا أسلحتهم، وأحاطوا ببيت النبي صلى الله عليه وسلم، إحاطة السوار بالمعصم، ومعهم كل إمكانات القوة البشرية والتقنية، أربعون شابًا ينتظرون رجلًا قد بلغ الثالثة والخمسين من عمره، وحيدًا لا نصير له.
وفي المقابل، وضع النبي صلى الله عليه وسلم خطته العبقرية، وأبرمها مع صاحبه الصديق رضي الله عنه، التي اعتمدت على أركان عدة، منها:
– السرية التامة:
فلا يعلم أحد منها شيئًا سوى المكلف بالمهمة، فعليٌّ رضي الله عنه لا يعلم كيف يسير الرسول صلى الله عليه وسلم، ولا مع من يسير؛ لأن مهمته تقتضي أن ينام على الفراش وفقط، وعبدالله، وأسماء، وعائشة، رضي الله عنهم، لا يعرفون أين سيتوجه النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه، رغم كون أبيهم أحد الرجلين، إذ مهمتهم تنتهي عند غار ثور، وعامر بن فهيرة رضي الله عنه يسير معهما ولا يعرف أين سيتوجهان، لتنقطع أخبارهما بمجرد مغادرة الغار.
– التعمية الكاملة:
فعليٌّ ينام على الفراش الطاهر حتى تطلع الشمس، فيضرب القوم أخماسًا في أسداس، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه يخرجان من خوخة خلف الدار ليلًا فلا يراهما أحد، ويسيران جنوبًا، في حين أن كل الأنظار تتجه ناحية الشمال، ويمكثان في الغار ثلاثًا حتى يهدأ الطلب، ثم يتجهون مع الدليل غربًا حتى ساحل البحر، ويسلكون طريقًا وعرًا لا يفكر فيه أحد.
– دقة التنفيذ:
تذهب أسماء كل يوم بطعامها وشرابها وتعود ولا يراها أحد، وعبدالله يروح ليلًا بما جمع من أخبار ويعود كبائت بمكة ولا يشك فيه أحد، وابن فهيرة يريح غنمه عندهما ويغادر صباحًا مخفيًا آثار عبدالله دون أن يتسرب منه خبر أو يلاحظه متابع، وابن أريقط لا يتخلف عن موعده بما معه من راحلة لضبط حركة السير، وعليٌّ لا يبحث عن خبرهما بعد أداء مهمته وكأن الأمر لا يعنيه.
– دقة اختيار الشخصيات:
حيث لا اختيار إلا لصاحب مهمة، ولا يصلح لها غيره، فهو اختيار في قمة الدقة والحكمة، وخاصة في ابن أريقط الذي ما وصل تفكير المشركين إليه أبدًا، وعليّ الثقة يُسحب ويُضرب ولا يعترف بكلمة، وأسماء تُلْطَمُ على خدها وتؤدي مهمتها على أكمل وجه، وعبدالله يعي ما يسمع ولا يثير شبهة.
– ضبط مواعيد الحركة:
فالخروج ليلًا وعليّ على الفراش، فما أن عرف القوم كانوا قد وصلوا إلى الغار، وكذا الخروج من دار الصديق ليلًا والناس نيام، والمكث في الغار ثلاثة أيام، ثم التحرك السريع ناحية يثرب بما لا يلاحقهم أحد.
ومع كل هذا الترتيب المحكم، والأخذ بأعظم الأسباب، إلا أن الله تعالى يبين أن الفضل كله منه، وأن التدبير تدبيره، والنجاة منه وحده، وليس بالأسباب وإن كان العبد مأمورًا أن يأخذ بها.
وظهرت هنا المعجزات الإلهية في المواطن الحساسة التي لا يقدر النبي صلى الله عليه وسلم عليها، لا هو ولا صاحبه، بل ولا الدنيا بأسرها، ومنها:
خروج النبي صلى الله عليه وسلم من بين أربعين شابًا يفتحون أعينهم، ولا يرونه، بل ويضع التراب على رؤوسهم إمعانًا في إذلالهم، وهو يردد: ﴿وَجَعَلْنَا مِن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَمِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْنَاهُمْ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ﴾ (يس: 9).
أخذ الله تعالى بأبصار المشركين وبتفكيرهم وهم أمام الغار، والنبي صلى الله عليه وسلم وصاحبه بداخل الغار، فلا يرونه ولا يفكرون في دخول الغار، ويعودون خائبين ولم يكن بينهم وبينه سوى بضعة أمتار، حتى قال أبوبكر رضي الله عنه: لو نظر أحدهم تحت قدميه لرآنا، وهنا كانت المعجزة التي حكاها لنا القرآن، قال تعالى: ﴿إِلَّا تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا ۖ فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ (التوبة: 40)، فكون الله معهما أعمى عنهما أعين المشركين.
وهذا سراقة، يراهما ويتيقن منهما، والجائزة عظيمة، مائة من الإبل يتوق لها سراقة، وهو رامٍ ومحاربٌ وفارسٌ لا يشق له غبار، فتسوخ ساقا فرسه في الأرض -وما سبق لها مثل ذلك- فينهضها، ويعاود الكرة مرة بعد مرة، فلا يجد لمأربه سبيلًا، فما كان منه إلا أن يطلب الأمان ممن ظنه الناس خائفًا، ويطلب الكتاب بسواري كسرى ممن ظنه الناس طريدًا، ويعود يدفع عنهما وقد كان منذ لحظات لهما طالبًا، إنها عناية الله وتوفيقه.
مكة كلها تطلب رجلًا فلا تدركه، ويخرج محققًا هدفه كاملًا، في أعظم عملية عرفها التاريخ، إنه محمد صلى الله عليه وسلم، وإنها معجزة الهجرة.