اندلاع الثورة الشعبية في سورية فتح الحديث عن العديد من المواقف التي يمكن أن توصف بالشائكة أو المتشابكة، ولذلك فهي تحتاج إلى فك تشابكها وإزالة الغموض العالق بها، وأقصد بذلك ظن البعض أن حركة “حماس” قد وضعت في حرج من إعلان موقف واضح من تلك الأحداث، وغالى البعض بأن المطلوب من “حماس” تأييد انتفاضة الشعب السوري ضد حكومته، بينما يرى البعض الآخر أن المفروض على “حماس” تأييد ذلك النظام الذي استضافها، ووفر لها الحماية اللازمة وقدم لها الدعم بلا حدود، حتى تمكنت قيادة المقاومة بالمهارة والكفاءة العالية التي يتابعها العالم.
وزاد من تعقيد الموقف، كلمة الحق التي صدع بها العلاَّمة الشيخ يوسف القرضاوي انتصاراً لحقوق المسحوقين والمظلومين في سورية، وابتهاله إلى الله أن ينصر الشعب السوري ضمن ابتهالاته في خطب الجمعة بأن ينصر الله الشعبين الليبي واليمني، ثم قيام بعض المواقع ببث تصريحات نارية لخالد مشعل ضد الشيخ القرضاوي.
ومن يتأمل تلك الصورة بكل عناصرها المتناقضة يجد أنها تحتاج إلى إعادة ترتيب حتى تبدو واضحة جلية، خاصة أن مواقف جميع الأطراف محسومة سلفاً قبل تلك الانتفاضة الشعبية وبعدها، فهي من ثوابت العمل والمعتقد والمنطلق، ومن هنا أتوقف أمام ما يلي:
أولاً: لم ينكر أحد على النظام السوري استضافته لحركة “حماس” وبقية قوى المقاومة الفلسطينية، وتوفير الحماية والدعم لها يوم عزّ النصير في العالم العربي، يوم طاردها وحاصرها معظم الأنظمة العربية، وقدم لها الدعم بلا حدود يوم قدّم الآخرون الدعم والمساندة للعدو ليقضي عليها، بل وقيام نظام الرئيس المصري السابق بحصارها ومحاولة قتلها جوعاً وعطشاً، وتوفير الدعم والغطاء للكيان الصهيوني لمحاولة إبادتها في غزة.
موقف لن ينساه التاريخ لسورية، لكننا لم نسمع أو نعلم أن المطلوب من “حماس” أن تقدّم مقابل ذلك تأييداً مطلقاً لسياسات النظام الداخلية أو الخارجية، أزعم أنني قريب من الملف الفلسطيني بشكل مكثّف، وأعلم أن «حماس» لم تعطِ أحداً ممن قدّموا –ويقدمون- الدعم لها وبالذات سورية أو إيران تأييداً على بياض لمواقفهم، ولم تسمح لنفسها بالتدخل في الشؤون الداخلية لأي طرف داعم، ولم تسمح في الوقت نفسه لأحد بتوجيه شؤونها الداخلية، أو التأثير على مواقفها الخارجية، أو الاقتراب من بنائها الفكري.
وفيما يتعلق بالأحداث الأخيرة، فقد كان موقف “حماس” واضحاً في بيانها الصادر بهذا الخصوص في 2/4/2011م، الذي اعترف لسورية قيادة وشعباً بوقفتها مع مقاومة الشعب الفلسطيني وحقوقه المشروعة، واحتضانها لقوى المقاومة، وخاصة “حماس”، ومساندتها في أحلك الظروف وأصعبها، وصمودها أمام كل الضغوط من أجل التمسك بدعم نهج الممانعة والمقاومة في المنطقة.
ثم أكد البيان اعتبار «حماس» ما يجري في سورية أمراً داخلياً يخص الإخوة في سورية -وفق البيان- الذي قال: «إلا أننا في حركة “حماس”، وانطلاقاً من مبادئنا التي تحترم إرادة الشعوب العربية والإسلامية وتطلعاتها، فإننا نأمل بتجاوز الظرف الراهن بما يحقق تطلعات وأماني الشعب السوري، وبما يحفظ استقرار سورية وتماسكها الداخلي ويعزز دورها في صف المواجهة والممانعة”.
ذلك هو موقف “حماس” الواضح بلا غموض، لكن البعض انتهز الفرصة وحاول إحراج “حماس” بدس تصريحات نارية منسوبة للسيد خالد مشعل، رئيس المكتب السياسي للحركة، ضد العلاَّمة القرضاوي؛ بسبب موقفه المؤيد للشعب السوري، مقروناً بمديح مفرط من مشعل للنظام السوري لا يقل عن قصائد المدح التي تغنّى بها رجال ونساء مجلس الشعب السوري خلال خطاب الرئيس بشار الأسد بمجلس الشعب.. ومرة أخرى، لم تجد حركة “حماس” ولا خالد مشغل أي حرج في نفي تلك التصريحات المنسوبة إليه عن الشيخ القرضاوي ذماً وقدحاً، وعن النظام السوري مديحاً ونفاقاً.
فأصدر المكتب الإعلامي للحركة نفياً قاطعاً لتلك التصريحات، مؤكداً أن شيئاً من ذلك لم يصدر عن مشعل، إنها الفرصة الكبرى للصائدين في الماء العكر؛ لإحداث فتنة بين “حماس” والنظام السوري من جهة، وإفساد العلاقة مع الشيخ القرضاوي من جانب آخر، لكن الله سيخيّب سعيهم.
وغني عن البيان هنا، فإن خصوم “حماس” أطلقوا خلال السنوات الماضية حملة تشويه للحركة، حملت كل مفردات التخوين، وبيع المواقف لصالح إيران وسورية، والذين أطلقوا تلك الحملة هي الأنظمة العربية التي رفضت مساعدة «حماس»، وعملت بالتعاون مع العدو الصهيوني على بذل كل الجهود لإبادة تلك الحركة.
وحرب غزة الأخيرة وحصار غزة الدائر حتى اليوم خير شاهد، لكن الله أفشل سعيهم ومخططاتهم، وأزال ملك بعضهم، بينما تدق ساعة الحساب للآخرين، ولم تجد «حماس» يومها سوى إيران وسورية للوقوف إلى جانبها ضد الهجمة.. هل تلام “حماس” على أنها سعت لإنقاذ نفسها وقضيتها، أم نلوم الذين تحالفوا مع الصهاينة والأمريكان لاجتثاثها من الأرض، وتسليم مفاتيح القضية الفلسطينية للصهاينة؟!
واليوم، يحاولون وضع «حماس» في مواجهة مع الشيخ القرضاوي صاحب الصولات والجولات في نصرة القضية الفلسطينية؛ لإفقاد القضية أحد أكبر المنابر التي تجاهد من أجلها بالكلمة والحركة والجهد منقطع النظير، ووضع الشيخ في الوقت نفسه في مواجهة مع النظام السوري؛ ليكون في خندق الأعداء، والحقيقة أن فضيلة الشيخ القرضاوي لم يقل إلا كلمة حق، رأى -وهو علاَّمة الأمة- أن التخلف عن قولها يضعه في حساب أمام الله سبحانه وتعالى، قال ما يعتبره حقاً وصدقاً، مؤدياً بذلك واجب العالِم العامل الذي لا يخشى في الله لومة لائم، وصدع بكلمة الحق ولو كان مراً ولو كلّفه حياته.. هكذا قال وهو يعلن موقفه من مجازر القذافي الدموية في ليبيا.
وحياة الشيخ القرضاوي المليئة بالمعاناة والمطاردة والسجن والعيش خارج بلده مصر كانت كلها بسبب التزامه بقافلة كلمة الحق عند سلطان جائر.. وأعتقد أن الشيخ لو كان في دمشق عند تفجر هذه المظاهرات لما تأخر حتى يغادرها؛ ليقول كلمة الحق -من قلب دمشق- في نصرة شعب مظلوم ومقهور.. وهكذا قالها القرضاوي في مواجهة مبارك، وبن علي، وصالح، والقذافي، ولن يتخلف عن قولها -كعهد الأمة مع الشيخ- مع أي مواقف مشابهة.
مرة أخرى، إن موقف سورية من المقاومة لا يماري فيه أحد، ولكن ذلك لا يعدّ جواز مرور للتنكيل بالشعب السوري وللانتهاكات الواسعة لحقوقه على يد نظام «البعث» الذي أذاق الشعب على مدى أكثر من أربعين عاماً الويلات والكبت وانتهاك حقوق الإنسان، وما جرى للإخوان المسلمين وقوى المعارضة –وما زال يجري– خير مثال، كما أن ما يجري اليوم لكل صاحب رأي مثال أوضح.
لقد أسس نظام «البعث» السوري -مثل بقية النظم الدكتاتورية في العالم العربي- معادلة معكوسة ومغلوطة، وهي أن الدكتاتورية والكبت وانتهاك حقوق الإنسان هي قرين التصدي للعدو ومواجهته، وكأن لسان حاله يقول: «حتى تواجه العدو بقوة؛ فلا بد أن تضرب على صدور شعبك بقوة أكثر، وتمسك بتلابيبه حتى يكون طيِّعاً ليِّناً».. وتلك لغة الاستعباد وقيادة العبيد، ولو قادت سورية مقاومتها وتصديها للعدو بشعب حرّ أبي يعبّر عن رأيه بكل حرية، ويتمتع بكل حقوقه؛ لكانت مقاومتها أقوى وتصديها للعدو أكثر متانة ومنعة.
لكن.. هكذا عودنا الطغاة.. إذا اتخذوا المعركة مع العدو تكأة ليلغوا من قاموسهم أي إصلاحات داخلية اقتصادية أو سياسية، وساسوا بلادهم بالقهر والجبروت والإفقار وتضخيم الأزمات.. لأنه «لا صوت يعلو فوق صوت المعركة» -كما كان يردد عبد الناصر في مصر- ناسين أن البداية الصحيحة تبدأ من البناء الداخلي المتين في كل المجالات، فقد واجهت الأمة التتار والصليبيين في أعتى المعارك المعروفة في التاريخ، وانتصرت عليهما بعد بناء داخلي متين، تمتع فيه الشعب المصري بالحرية والعدالة والإنصاف من حكامه، وذلك هو الطريق لمقاومة العدو ولبناء النهضة.
__________________________________________________________________
العدد: 1947،– 6 جمادى الأولى 1432هـ / 9 إبريل 2011م، ص14-15
كاتب القمال: شعبان عبد الرحمن