لا يشك أحد في أن المسلمين المعاصرين يواجهون أخطر التحديات التي مرت بهم في تاريخهم كله، حيث وقفوا أمام التحدي العالمي الكبير، والكيد العالمي الحاقد، والغزو الفكري الشرس، وأخطر ما في ذلك التحدي، وأشرس ما في ذلك الغزو؛ هو الخطر اليهودي الماحق.
لقد صدق رسول الله في تصويره الخطر الذي يهدد هؤلاء المسلمين، وذلك فيما رواه أبو داود عن ثوبان مولى رسول الله قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يوشك الأمم أن تداعى عليكم، كما تداعى الأكلة إلى قصعتها»، فقال قائل: ومن قلة نحن يومئذ؟ قال: «بل أنتم يومئذ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابة منكم، وليقذفن في قلوبكم الوهن»، فقال قائل: يا رسول الله، وما هو الوهن؟ قال: «حب الدنيا وكراهية الموت».
وفي هذا التحدي العالمي الكبير، والغزو الفكري الخطير، نجد رحى الإسلام ومواقعه دائرة.. ونحن مطالبون أن نكون مع الإسلام، في رحاه ومعاركه ومواقعه، وأن نثبت عليه، وأن ندور معه حيث دار.
وقد دلنا رسول الله على هذا الثابت الأساسي، وأوصانا فيه بوصية جامعة؛ فقد روى معاذ بن جبل عن رسول الله قال: «خذوا العطاء ما دام عطاء، فإذا صار رشوة على الدين فلا تأخذوه، فلا تأخذوه، ولستم بتاركيه، فيمنعكم من ذلك المخافة والفقر، ألا إن رحى الإيمان دائرة، فدوروا مع الكتاب حيث يدور، ألا وإن السلطان والكتاب سيفترقان، ألا فلا تفارقوا الكتاب، ألا إنه سيكون عليكم أمراء، إن أطعتموهم أضلوكم، وإن عصيتموهم قتلوكم»! قالوا: فكيف نصنع يا رسول الله؟ قال: «كما صنع أصحاب عيسى، حملوا على الخشب، ونشروا بالمناشير! موت في طاعة الله خير من حياة في معصية الله».
إننا لا نجتاز هذه المرحلة، ولا نتجاوز هذه المحنة، ولا ننجح في هذا التحدي إلا بالثوابت، بمعرفتها وملاحظتها ومعايشتها والثبات عليها والانطلاق منها.
وسوف نجتاز هذه المحنة الخطيرة -بإذن الله- كما اجتاز أسلافنا المحن السابقة، وسيخرج الإسلام -بإذن الله- من هذه المحنة أصيلاً صافيًا ظافرًا منتصرًا، كما حصل في السابق!
من مزايا هذه الثوابت للمسلم المعاصر
توفر للثوابت الإسلامية، ما لم يتوفر لغيرها من القواعد والأسس، من مزايا وسمات وخصائص؛ وذلك بفضل التميز والتفرد الملحوظين في الدين الإسلامي العظيم.
1- أنها ثمرة طيبة لشجرة مباركة، إنها ثمرة لشجرة الإيمان في قلبه وكيانه؛ ولذلك هي مرتبطة بالإيمان عنده سلبًا وإيجابًا، فإذا قوي إيمانه ترسخت ثوابته، وإذا ضعف إيمانه وهنت واهتزت ثوابته، قال تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاء {24} تُؤْتِي أُكُلَهَا كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّهَا وَيَضْرِبُ اللّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ {25} وَمَثلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِن فَوْقِ الأَرْضِ مَا لَهَا مِن قَرَارٍ {26} يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ) (إبراهيم).
2- أنها أصيلة، حيث يستمدها المسلم من توجيهات القرآن الكريم، وإرشادات السُّنة الشريفة الصحيحة، ومن تطبيق الرسول صلى الله عليه وسلم العملي لها، ومن التزام الصحابة الكرام، والعلماء الأعلام، والمصلحين العظام بها وثباتهم عليها.
3- أنها ملزمة لهذا المسلم؛ بمعنى أنه يجب عليها ملاحظتها، والثبات عليها، والالتزام بها، إن أراد أن يعيش إسلامه عمليًّا، وينجح في مواجهة أعدائه والفوز برضوان ربه.
إنه ليس مخيّرًا فيها، إن شاء التزم بها، وإن شاء تخلى عنها، إنها من لوازم إيمانه ومظاهر إسلامه.
4- أن لها مجالاً واسعًا، وبُعدًا عريضًا؛ فهي شاملة لحياته كلها، في كل مرافقها وجوانبها وآفاقها ومظاهرها، في المجال الفردي والجماعي والاجتماعي، مع نفسه ومع المقربين والآخرين والناس أجمعين.
5- أنها سر شخصية المسلم وهيبته ووجوده فبها يعيش حياته حرًّا أبيًّا، وعزيزًا كريمًا، يرفض الضيم، ويستعلي على مظاهر الضعف، ويصبر على الأذى، ويحتمل الابتلاء، ويواجه الظلم والجبروت والطغيان، ويفرض احترامه وتقديره على الآخرين، ولو كانوا أعداءه ومحاربيه وسجانيه وجلاديه.
6- أنها لله، يتوجه بها المسلم لربه، بإخلاص وإنابة وتجرد، لا يطلب عليها من الناس جزاء ولا شكورًا، ولا ينتظر منهم ثناء ولا مدحًا، بل يعتبرها عبادة يتقرب بها لله، يرجو منه وحده الثواب عليها.
إن مراعاة المسلم للثوابت الإيمانية عبادة، وإن ثباته على هذه الثوابت عبادة، تكاد تساوي بعض الشعائر التعبدية التطوعية، التي اعتاد مسلمون أداءها لله.
7- أنها مظهر من مظاهر حاجة المسلم لربه، ولجوئه إليه، واستعانته والعوذ به، فهو يعتبر أنه وحده لن يصمد لها ولن يثبت عليها؛ ولذلك يتوجه إلى ربه بحاجة وإلحاح واضطرار، فيطلب منه سبحانه العون والتثبيت، ويدعوه بتضرع ومسكنة قائلاً: «اللهم يا مقلب القلوب، ثبت قلبي على دينك، اللهم يا مصرف الأبصار، اصرف بصري إلى طاعتك».
8- أنها ضرورية لهذا المسلم، إذ هي صمام الأمان له، يقيه بفضل الله من الشرود والضياع والانفلات والانحراف، وهي بمنزلة قارب إنقاذ له، يجتاز به الأعاصير والأمواج والعواصف، وسفينة نجاة يعبر بها بحر الحياة الزاخر المتلاطم، وبدون هذه الثوابت لن ينجح في تجاوز كل هذه الأخطار والأهوال، والوصول إلى بر الأمان بأمان وسلام.
9- أنها ملازمة لهذا المسلم، لا يُتصوّر تخليه عنها، ولا تركه لها، إنها ألصق به من جلده، فإذا أمكنه الانسلاخ من جلده، والسير في الأرض مسلوخًا فليفكر عندها في انسلاخه عن ثوابته! وصدق الله حيث يقول: (وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِيَ آتَيْنَاهُ آيَاتِنَا فَانسَلَخَ مِنْهَا فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطَانُ فَكَانَ مِنَ الْغَاوِينَ {175} وَلَوْ شِئْنَا لَرَفَعْنَاهُ بِهَا وَلَـكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الأَرْضِ وَاتَّبَعَ هَوَاهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِن تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَث ذَّلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُواْ بِآيَاتِنَا) (الأعراف).
10- أنها أغلى عنده من كل شيء في الحياة، بل أغلى عنده من نفسه التي يحملها، وأهم عنده من أنفاسه ونبضات قلبه؛ ولذلك يقدمها على كل شيء ويضحي من أجلها بكل شيء، ولو كان هذا الشيء حياته وروحه، ولو كان هذا الشيء أنفاسه ونبضات قلبه، إنه يضحي من أجلها بماله وأهله وولده ومنافعه ومصالحه ودنياه، بل يضحي من أجلها بنفسه وروحه وحياته، ولا يفعل فِعلَ بعض تجار المبادئ وأزلام المواقف الذين يضحون بثوابتهم من أجل مصالحهم ومنافعهم!
ومن السمات الواضحة والمزايا البارزة لهذه الثوابت أنها لا تقبل المساومة، ولا تخضع للمداهنة، ولا تجري عليها المناورة، ولا تتأثر بسوق العرض والطلب، ولا تؤثر فيها الظروف والأحوال، ولكن أعداء الحق يحاولون مداهنة جنود الحق، ويساومونهم على ما عندهم من ثوابت وحقائق، ويدعونهم للتخلي عنها.
____________________________
المصدر: كتاب «ثوابت للمسلم المعاصر».