قال عبدالرحمن بن محمد بن خلدون في «المقدمة»: «اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيداً إذا كان على التدريج شيئاً فشيئاً، وقليلاً قليلاً، يُلقى عليه أولاً مسائل من كل باب من الفن هي أصول ذلك الباب، ويقرب له شرحها على سبيل الإجمال، ويراعى في ذلك قوة ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم إلا أنها جزئية وضعيفة، وغايتها أنها هيأتها لفهم الفن وتحصيل مسائله، ثم يرجع به إلى الفن ثانية فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها، ويستوفي الشرح والبيان ويخرج عن الإجمال، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه، وإلى أن ينتهي إلى آخر الفن، فتجود ملكته، ثم يرجع به وقد شدَّ فلا يترك عويصاً ولا مهماً ولا مغلقاً إلا وضّحه وفتح له مقفله، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته»(1).
ثم قال: «هذا وجه التعليم المفيد، وهو كما رأيت إنما يحصل في ثلاثة تكرارات، وقد يحصل للبعض في أقل من ذلك.. وقد شاهدنا كثيراً من المعلمين في هذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته، ويُحْضِرون للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها، ويَخلِطون عليه بما يلقون له من غايات الفنون في مبادئها، وقبل أن يستعد لفهمها، فإن قبول العلم والاستعداد لفهمه تنشأ تدريجياً، ويكون المتعلم أول الأمر عاجزاً عن الفهم بالجملة إلا في الأقل، وعلى سبيل التقريب والإجمال والأمثال الحسية، ثم لا يزال الاستعداد فيه يتدرج قليلاً قليلاً بمخالفة مسائل ذلك الفن وتكرارها عليه، وإذا ألقيت عليه الغايات في البداءات وهو حينئذٍ عاجز عن الفهم والوعي وبعيد عن الاستعداد له كَلَّ ذهنه عنها وحسب ذلك من صعوبة العلم في نفسه، فتكاسل عنه وانحرف عن قبوله، وتمادى في هجرانه، وإنما أتى ذلك من سوء التعليم، ولا ينبغي للمعلم أن يزيد متعلمه على فهم كتابه الذي أكبَّ على التعلم منه بحسب طاقته، وعلى نسبة قبوله للتعليم، مبتدئاً كان أو منتهياً، ولا يخلط مسائل الكتاب بغيرها حتى يعيه من أوله إلى آخره، ويحصِّل أغراضه ويستولي منه على ملكة بها ينفذ في غيره، لأن المتعلم إذا حصّل ملكة ما في علم من العلوم استعد بها لقبول ما بقي، وحصل له نشاط في طلب المزيد والنهوض إلى ما فوق، حتى يستولي على غايات العلم، وإذا خُلِطَ عليه الأمر عجز عن الفهم، وأدركه الكلال، وانطمس فكره ويئس من التحصيل، وهجر العلم والتعليم، والله يهدي من يشاء، وكذلك ينبغي لك ألا تطول على المتعلم في الفن الواحد بتفريق المجالس، وتقطيع ما بينها لأنه ذريعة إلى النسيان، وانقطاع مسائل الفن بعضها من بعض، فيعسر حصول الملكة بتفريقها.. ومن المذاهب الجميلة والطرق الواجبة في التعليم ألا يُخلَط على المتعلم علمان معاً، فإنه قلّ أن يظفر بواحد منهما، لما فيه من تقسيم البال، وانصرافه عن كل واحد منهما إلى تفهم الآخر فيستغلقان معاً.. وإذا تفرغ الفكر لتعليم ما هو بسبيله مقتصراً عليه، فربما كان ذلك أجد لتحصيله والله سبحانه وتعالى الموفق للصواب».
_______________________
(1) الفصل التاسع والعشرون من مقدمة ابن خلدون (ص 533 – 534).