تطلع علينا «الأيام» كل يوم باستفتاء أو سؤال تحرّك به ما جمد من العقول وتوقد به ما خمد من القرائح، تدفع الكتّاب إلى إعمال العقل وإجراء القلم، فيستمتع القراء بثمرات عقولهم وحصاد أقلامهم.
وكان من آخر ما طلعت علينا به السؤال عن الزواج: هل يمكن أن يُبنى على الحب وحده؟ وعن سن الزواج: متى يحسن بالرجل أن يتزوج؟ وبدت طلائع الأجوبة، فكان منها ما هو عجب من العجب، وأنا لا أحبّ أن أجادل أحداً ولا أن أردّ على أحد، وإنما أدلي بالرأي الذي أراه، فمن كان يثق بي واتّبع رأيي فَبِها وَنِعِمّت، ومن خالفني وعصاني فلست مسؤولاً عنه ولا أنا عليه بوكيل.
وقبل الجواب عن السؤال الأول، أحبّ أن أفهم ما هو هذا الحب الذي تسألون عنه؟ إن الله خَلَق في الإنسان غريزتين؛ غريزة لبقاء ذاته، وغريزة لبقاء نوعه، فبالأولى يسوقه لَذْعُ الجوع إلى ابتغاء الطعام ليدفع بالشبع الموت عن نفسه، وبالثانية يسوقه وَقْدُ الشهوة إلى الاقتراب من الأنثى ليمنع بالنسل الانقراض عن جنسه.
وقد يكون الطعام بين يديك في المطعم وثمنه في جيبك، تفكر فيه فتراه أمامك، ويكون الجنس الآخر في مِلْكك، ويكون حلالاً لك قِيدَ طلبك، فلا تشغل بتصوّره ذهنك ولا تُكدّ بانتظاره أعصابك.
وقد يكون الجوع موجوداً والطعام مفقوداً، فأنت كلما قاسيت مرارة الجوع ازدادت في تصورك حلاوة الطعام، فإذا طال الأمد صار لك (كما يقول علماء النفس) فكرةً ثابتة، فأنت لا تفكّر إلاّ فيه ولا تحن إلاّ إليه.
وتكون الرغبة الجنسية موجودة والجنس الآخر مفقوداً، فيكون عندك من التفكير فيه مثل تفكير الجائع في الطعام، وهذا هو الذي نسميه الحب، وهو أشدّ من تفكير الجائع بالطعام، لأنه حين يطلبه لا يفكّر في لونه ولا في جنسه، والجائع الجنسي قد تستقر رغبته في امرأة بعينها تنحصر دنياه كلها فيها.
إنه يطلب أن ينظر إليها ويحدثها، فهل ترونه يكتفي إن رآها بالنظر؟ هل تظنون أنه إن حدثها قنع بالحديث؟ إنه كالجائع، فهل يكفي الجائع أن يرى الطعام ويشمه وينظم في وصفه الأشعار ويصوغ القوافي؟
لا يا أولادي، لا والله العظيم؛ إنه لا يريد جمالها لعينه ولا حديثها لأذنه، ولكنه يريد قفلها لمفتاحه، إنها غريزة النوع لا يرويها إلاّ ما يتمّ به النسل.
وما الحب (مهما زخرفه الشعراء وزوّقه الأدباء) إلاّ رغبة في الاتصال الجنسي لم تجد طريقها.
إن الحبّ العذري الشريف حديث خرافة لا تروج سوقه إلاّ على المجانين والشباب، هذه حقيقة من أنكرها وجد الردّ عليه في نفسه، إن في كل نفس الدليل على أنها حقيقة لا سبيل إلى إنكارها، فهل يصلح الحب وحده أساساً للزواج؟ إن الحبّ جوع نفسي، فهل يستطيع الجوعان أن يحكم على جودة الطعام؟ ألا يزيّن له جوعه المجدّرة حتى يحسّ لها تحت لسانه طعم الخروف المحشي؟ فإذا زالت لذعة الجوع عادت المجدّرة مجدّرة، وتبيّن أنها لم تكن خروفاً إلاّ في أوهام الجوع.
كذلك المحبّ؛ إنه يسبغ من حبّه على المحبوب ثوباً براقاً يراه به أجمل الناس، فإذا تزوجها لهذا الثوب الذي يغريه بها، ثم زال عنها لمّا زال الحب، لم يبقَ بينهما زواج، لأنه ما تزوج بها ولكن تزوّج الثوب الذي أسبغه خياله عليها.
وما دام الحب في حقيقته اشتهاء للقاء الجنسي، فلا بدّ أن يزول إن زالت هذه الشهوة، ولا بدّ أن يعقل المجنون فتعود ليلى في نظره امرأة كسائر النساء فلا تبقى له فيها رغبة، كما تذهب رغبة الجائع في الطعام إذا ملأ معدته منه.
إنه رباط مؤقت ينقطع من الملامسة الأولى (وأنتم تفهمون ما معنى الملامسة!) والزواج صلة دائمة تحتاج إلى رباط دائم يقوى بالملامسة ويشتدّ، ولا يزداد على الأيام إلاّ قوّة وإحكاماً.
وأنا من مدمني النظر في آداب الأمم كلها، ولا أحصي القصص التي قرأتها لكبار الأدباء في موضوع الزواج الذي يُبنى على الحب، ونهايتها كلها الشقاق والفراق.
ولا تغتروا بأمثال آلام فرتر، ورفائيل وماجدولين، وبول وفرجيني، وكرازييلا وجوسلان، والأجنحة المتكسّرة، فهذه كلها صور لمرحلة الرغبة التي تكلّمت عنها، ولو تزوّج كل واحد من أبطالها بالتي يعشقها زواج حب فقط لكانت خاتمة القصة الطلاق! لا؛ لا يصحّ أن يُبنى الزواج على الحبّ وحده إلاّ إن صحّ أن تُبنى العمارة الضخمة على أساس من الملح في مجرى الماء!
إنما يُبنى الزواج على التوافق في التفكير والسلوك والوضع الاجتماعي والحالة المالية، وبعد هذا كله تأتي العاطفة، فينظر إليها وتنظر إليه، أي ينظر إلى وجهها وكفّيها فقط بحضور وليّها أو أحد محارمها، فإن ألقى الله في قلب كل منهما الميل إلى الآخر صار هذا الميل مع الزواج حباً هادئاً مستمراً، وإن أحسّا نفرة أو عزوفاً أغنى الله كلاًّ منهما عن الآخر.
______________________________
جوابي عن سؤال صحيفة «الأيام»، نُشر سنة 1959م، وأدرج في كتابي «مع الناس».