فكرة المدرسة في السودان فكرة قديمة إلى ما قبل الشكل الحديث للمدارس الذي نعرفه الآن، فهي تمتد إلى أكثر من 500 عام، عندما بدأت المجموعات العربية الدخول إلى السودان من خلال التجارة، وأخذت على عاتقها نشر الإسلام، ومنذ عام 1503م، وهي الفترة التي شهدت بدايات تشكيل الطرق الصوفية، ظهرت ملامح المدرسة عبر الكتاتيب التي بدأت في تدريس القرآن أولًا ثم توسعت إلى تدريس العلوم الدينية الأخرى، وهذا ما يطلق عليه حتى الآن بالخلاوي في السودان، وهو موضوع لمقال آخر.
وتطورت مهام المدرسة من مكان لتحفيظ القرآن، ودراسة العلوم الدينية المختلفة إلى مكان لتدريس جميع أنواع العلوم الأخرى، وهو ما استقرت عليه الآن المدارس السودانية، وإن كانت المدارس الدينية قد احتفظت بتخصصها.
واكتسبت المدرسة الحديثة في السودان أهميتها وربما قدسيتها من ذلك الموروث المجتمعي عن المدارس الدينية التي يطفي عليها المجتمع وعلى معلميها قداسة خاصة.
المعلم
قد لا يعرف البعض أن جميع أفراد الشعب السوداني، ظل يكن احترامًا خاصًا للمعلم ويضعه في مراتب عليا داخل المجتمع، وكان أظهر صور لذلك هو استشهاد أحد المعلمين من شرق السودان عند قيام الثورة على الرئيس السابق البشير، فتجمع عشرات الآلاف للتظاهر، لأن من قتل كان معلمًا، ولكن صورة المعلم بدأت تتراجع للأسباب التالية:
1- انتشار الدروس الخصوصية، وتحول نظرة المجتمع للمعلم من رجل يهب حياته للعلم والمدرسة إلى مجرد تاجر يجمع الأموال من أولياء الأمور، بل ويبتز أحيانًا طلابه للحصول على مزيد من المال، وإجبارهم أحيانًا على الدروس الخصوصية.
2- ساهم ظهور الإنترنت ووسائل الإعلام الحديثة في تفكيك احتكار المعلمين للمعلومات، بل وتقديم مواد علمية أكثر دقة ومعلوماتية من تلك التي يقدمها المعلم التقليدي، وهو ما قلل إلى حد كبير من نظرة المجتمع للمعلم باعتباره أكثر تميزاً بين أفراده.
3- بعد ظهور ثورة النفط، بداية من العام 1973م، واتجاه أعداد كبيرة من المعلمين إلى العمل بالدول الخليجية، نشأت حالة من عدم التوازن بين المعلم في السودان الذي يحصل على قروش قليلة، والآخر الذي يسافر إلى دول الخليج ويعود بأموال تضعه في المراتب العليا للمجتمع، وقد ساهم هذا بدوره للاتجاه للدروس الخصوصية لإحداث التوازن، وهو ما قلل الدور الأساسي للمدرسة باعتبارها بيت العلم، فقد حل منزل المعلم بديلًا عن المدرسة، وسجلت السنوات الأخيرة غياب طلاب المدارس بشكل مستمر عن مدارسهم، وحضورهم المنتظم في مراكز الدروس الخصوصية.
أسباب أخرى
ومن الأسباب التي لا يمكن إغفالها في تراجع دور المدرسة في العملية التعليمية بالسودان، هو عدم قدرة الدولة على الإيفاء بالاحتياجات الضرورية للعملية التعليمية داخل المدرسة، حيث تفتقد معظم المدارس في الأرياف وفي بعض المدن إلى الاشتراطات الصحية التي من بينها:
1- إنشاء المدارس بمنافذ تهوية، ووسائلها من مراوح وأجهزة تكييف، حيث أصبح من النادر أن تزود تلك المدارس بمثل هذه الوسائل.
2- تزويد المدارس بدورات مياه نظيفة، وبعدد كافٍ منها، وهو ما يغيب بشكل كبير عن المدرسة، ويتسبب في كثير من المشكلات الصحية للتلاميذ.
3- عدم قدرة الدولة على توفير العدد الكافي ممن المدارس الفصول الدراسية القادرة على استيعاب الأعداد المتزايدة مما تسبب في حالة تكدس كبيرة داخل الفصول لا تسمح أبدًا بالاستيعاب والتركيز والتهوية للطالب أو المعلم.
4- غياب وسائل العملية التعليمية من مواد الكتابة والمقاعد الدراسية وشاشات العرض وأجهزة الكمبيوتر، على الرغم من اطلاع معظم الطلاب على تلك الوسائل في البلاد الأخرى من خلال متابعتهم للعملية التعليمية عبر شبكة الإنترنت.
وفي السودان، ما زالت الدولة تناقش في الولايات وفي المركز مشكلة توفير مقاعد للتلاميذ، وهي ما يطلق عليها مشكلة «إجلاس الطلاب»، وما زالت تقام الاحتفالات التي يحضرها والي الولاية عند توفير عدد من المقاعد للتلاميذ باعتباره أحد الإنجازات الكبرى في العملية التعليمية.
عدم قدرة الدولة على توفير الكتاب المدرسي حيث تنتظر مدارس إلى ما بعد نصف العالم للحصول على الكتب المدرسية، كما أن بعض المدارس في أطراف السودان شرقًا وغربًا وجنوبًا، تكتفي بتوفير الكتاب للمعلم فقط دون طلابه، وهو ما صرف أنظار أولياء الأمور إلى الكتاب الخارجية، وعدم الاهتمام بما تصدره وزارة التعليم من كتب فقدت أهميتها أولُا، ولا تأتي في مواعيدها ثانيًا.
جميع هذه الأسباب أدت إلى تراجع دور المدرسة وخاصة المدارس الحكومية التي ينخرط فيها أكثر من 90% من أبناء الشعب السوداني، ووفقًا لإحصاءات وزارة التعليم، فإن الحرب الدائرة الآن قد قضت تمامًا على العملية التعليمية بكاملها من مدارس وجامعات في مناطق النزاع خاصة في العاصمة الخرطوم، التي كان يسكنها أكثر من 8 ملايين مواطن، وهم يمثلون الطبقات العليا والمتوسطة في الشعب السوداني، كما أن كل ما شهده إقليم دارفور بولاياته الخمسة من نهضة تعليمية في السنوات الأخيرة، قد أعادته الحرب إلى المراحل البدائية، حيث أصبح الفصل هو ظل شجرة، والمقاعد هي أحجار الجبال في الفضاء المكشوف.
حول العملية التعليمية
ونتيجة لحالة الفقر التي تلم بالبلاد، وسوء الأوضاع الاقتصادية، لم تحظ العملية التعليمية بمخصصات تساهم في رفع مستواها، حيث لم تزد تلك المخصصات على 1.3% من ميزانية الدولة مقارنة بـ20% في البلدان الأكثر تطورًا، وازدادت نسب تسرب الطلاب من المدارس بسبب سوء أوضاعها، وعدم مطابقاتها للمواصفات والاشتراطات الصحية والترفيهية، ووفقًا لتقرير صدر العام الماضي من منظمتي «يونيسف» الخاصة برعاية الطفولة، فإن أكثر من 7 ملايين تلميذ تسرب عن التعليم في السودان؛ وهو ما يشكل 33% من إجمالي أطفال السودان، وكان هذا التقرير قبل اندلاع الحرب الموسعة التي ساهمت في نزوح ولجوء ملايين الطلاب والتلاميذ خارج السودان.
وعلى الرغم من المحاولات المكثفة التي قام بها الشعب السوداني لإنشاء مدارس خاصة أكثر ملاءمة للعملية التعليمية، حيث اقترب عدد تلك المدارس من 3 آلاف مدرسة، فإن ارتفاع التكاليف الباهظة للمدارس الخاصة جعلها قاصرة على فئة محدودة جدًا بين أفراد الشعب السوداني؛ مما أفقدها أثرها في تغيير الوضع المتدهور للمدرسة في البلاد.
وهكذا يبدو أن المدارس في السودان تراجع دورها بشكل كبير في العملية التعليمية لأسباب خاصة بالتدهور الاقتصادي للبلاد، واستمرار الحروب الأهلية منذ إعلان الاستقلال في عام 1956م، إضافة إلى ما سبق ذكره من أسباب، ويبقى أن المدارس الصوفية التي يطلق عليها الخلاوي ما زالت تحتفظ بدورها داخل المجتمع السوداني.
_______________________
كاتب سوداني.