كتب: د. جاسم الفهيد
في لا مبالاة باتت معهودة من العرب تقف غزة وحيدة محاصرة برا وبحرا وجوا بحدود نازفة كل يوم، وكأنها الحرة الثكلى التي عدمت مروءة الكرماء التي تنتصر لمن لا ناصر له غير الله. ووقف العالم المتحضر وهو يشهد الخنق البطيء الذي يتعرض له أكثر من مليون ونصف المليون من البشر المحشورين في شريط ساحلي ضيق يمتد طولا 40 كيلو وعرضا عشرة كيلومترات. يعيش الناس هناك في عنق الزجاجة، ذلك العنق الضيق الذي ألفوه وألفهم غير أنه هذه المرة قد ازداد ضيقا وحرجا منذ أحداث شهر يونيو الماضي، ليكون الحلقة الأشد إيلاما في حصار بدأ مطلع العام الماضي بعد الانتخابات الديموقراطية التي أوصلت حركة حماس إلى الحكم.
وهكذا فرض النظام العالمي الجديد طوقا خانقا يلف القطاع، بينما يعد ضربا من العقوبة الجماعية للشعب الفلسطيني الذي مارس حقه الديموقراطي في اختيار من يراه الأقدر على سياسة أمره بعد أن عانى دهرا طويلا من حكم القطط السمان التي أضاعت المليارات من المعونات السخية من دون أن تحقق شيئا يذكر للشعب المظلوم ذلك الشعب الذي تاجر ساسته الخائبون بقضيته فلعقوا من ورائها الشهد وامتصوا دماءه ومضغوا مشاش عظامه!. وفي غزة يمر الناس بضائقة اقتصادية خانقة لا توصف، فحركة التصدير والاستيراد التجارية معطلة تماما بسبب المعابر المغلقة التي تعرقل حركة الدخول والخروج من القطاع، ولا تسمح بالمرور، إلا لنذر يسير من المساعدات الإنسانية التي تهدف إلى درء خطر المجاعة عن القطاع المنكوب، لكنها لا تتيح لأهله حياة كريمة بل تدفعهم إلى الإحساس بضعفهم وعجزهم وأن قدرهم الأبدي أن يعيشوا على ما يجود به الآخرون من فتات!. حتى حكومة سلام فياض الموقتة التي أقيمت كبديل عن الحكومة المنتخبة لم توجه اهتمامها لنصرة المحاصرين والتخفيف من قبضة الخناق، إلا عبر وعود وتصريحات لم يكن لها على واقع الأرض من وجود.
لقد كان عرب الجاهلية المشركون أرحم قلوبا وأوفر مروءة من كثير من العرب المسلمين الذين يشاركون بحماسة متوهجة في إحكام قبضة هذا الحصار الجائر، فحينما تعرض النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام للحصار الاقتصادي في مكة في السنة السابعة من البعثة في شعب أبي طالب، لم يعدم مروءة رجال من بني قومه لم يكونوا على دينه ولكنهم عمدوا إلى خرق الحصار وإرسال الطعام والمؤن للمحاصرين في الشعب حمية ومروءة، حتى انتدب في آخر الأمر نفر من كرامهم منهم هشام بن عمرو وزهير بن أبي أمية المخزومي والمطعم بن عدي النوفلي لنقض صحيفة الحصار الآثمة ودفعتهم الشهامة لنصرة أولئك المستضعفين والوقوف في وجه الطاغية أبي جهل. غير أن الحمية العربية الآن تغط في سبات عميق، فالعرب يتفننون في تبديد أموالهم في ضروب اللهو وفضول العمل من دون أن يستشعروا مآساة هؤلاء المحاصرين، الذين يتجرعون غصص الموت البطيء دافعين ثمن اختيارهم الحر كل يوم، وأما أبو جهل فقد اطمأن إلى أن عروق المروءة لن تنبض من جديد في عرب اللسان الذين نزعت من قلوبهم الرحمة!.
المصدر: صحيفة “الوسط” الكويتية
التاريخ : 21 / 8 / 2007 م
العـــــدد : 70