من العوامل المُشتَرَكة في هموم شباب المسلمين النفسيّة واستشكالاتهم الفكرية عامل التأثر بحضور الثقافة الأجنبية في تصوراتهم عن نفوسهم وعن الوجود، وتخيلاتهم وتطلعاتهم لأجواء ذلك الآخر.
وهذا التأثر أشد ما يكون في عصر اليوم، بسبب جنون الترجمة وسُعَارِ النقل للعربية من المحترفين والهُوَاة على السواء، ولا تقتصر الترجمة على المرئيات كالأفلام والمسلسلات، بل انضمَّت للرَّكب منصات المحتوى الثقافي العربي، التي يتخذها كثيرون من جماهير الشباب في مراحل الإعدادية والثانوية خاصة بوابات اطّلاع وتثقيف رئيسة.
فبقدر ما أحدثت منصات التدوين ومواقع المقالات طفرة في المحتوى العربي على الإنترنت، تجدها شطحت من الإثراء للغثاء وانقلب غالبها من بوابات تثقيف نافع أو تسلية خفيفة لبؤر فساد وإفساد؛ إذ صار الهمّ مع الوقت تكديسها بأكبر كمّ وأضخم عناوين توفر لها ميزات تسويقية وضغطات إعجابية وانتشارات جماهيرية، وصارت معايير المقالات المرسلة لكثير من المنصات ليس ثراء المحتوى من حيث آثاره الفكرية أو التوعوية، بل من حيث استقطابه الجماهيري وعدد الضغطات، ومعلوم نوعية ما يستهوي الجماهير!
وحين تدخل على غالب تلك المنصّات تجد صورًا لافتة وعناوين براقة في السياسة والاجتماع والعلاقات والتطوير الذاتي، يضاف لها إثر موضة الجرأة في الطرح تَصدُّر عناوين تتضمّن كلمة «الجنس» و«الفضائح» ومشتقاتهما الحمراء، وصور الموديلات والعارضات والمخنثين وما أشبه، واستعراض جامح وجائح لمختلف ما ترمينا به الدراما الأجنبية بكل الأطياف وكل المواضيع وكل النكهات. كل هذا تحت ستار «المحتوى الثقافي»، وعلى منصات مُسمَّاة بأسماء عربية ومُزيّنة بآيات وأحاديث تحت بند «حكمة اليوم»، بتنميق يغري جمهرة الشباب إغراء معسولًا على خلاف الجبهات الناشرة للفجور والفساد الصريح.
ومع كل ذلك، لم تثمر تلك المنصّات في غالبها ثقافة أو وعيًا أو تفتّحًا فكريًا على الحقيقة، بقدر ما غَدَت مداخل تشوهات فكرية ونفسية. لماذا؟ لأنّ الاتكاء الشديد على مجرد النقل، واعتبار الترجمة وحدها عملًا مطلوبًا لذاته، والعرض الأرعن لكل ما يُعرَض عندهم لمجرد العرض عندنا أسفر عن موجة عاتية من القضايا والمفاهيم والإشكالات أعجمية المنشأ والهوية والثقافة، وإن عرَّبناها لغة وحروفًا، بل الأدهى أنها لا تجيب عندنا حاجة جملة، ولا تعبّر عنا تفصيلًا: عناوين في جدليات الفلسفة وضغوط المجتمع ومواضيع الجنس والشذوذ والزنى ووساوس المراهقين وانتحار الشباب.. كل ذلك في عرض متتال ومنهمر دون أي عناء من كاتب المقال أو المدوّن في معارضة الطرح بفكر ناقد أو ثقافة مقابلة.
وأدنى الآثار السيّئة التي يخرج بها المطالع لتلك المنصات هو تكدّر مزاجه واغتمام نفسه بالأجواء القاتمة التي تَسود همومهم واهتماماتهم وشؤونهم الحياتية، لأنها بطبيعة الحال مبتورة عن نور الله تعالى، وهي كلها وليدة بيئتهم ونهج حياتهم وما اختاروا لأنفسهم، فلماذا نعيد تدويرها وتصديرها لجمهورنا كأن ما عندنا من همومنا لا يكفينا، أو كأننا حللناه وتبقّى أن نتثقف عن حال غيرنا؟! وما نوع النفسية التي يمكن أن تتشكل بمجابهة مثل هذه الواجهات يوميًا، خاصة حين لا يكون لصاحبها أساس راسخ وتمكّن من هُويّته (وهو حال أغلب جمهور المطالعين)، وبالتالي يصطبغ بعد طول تشرّب لا واعٍ بألوان من هويات الآخرين بأذواقهم وأفهامهم ومشكلاتهم وحججهم وتصوراتهم للوجود ومعالجة قضاياه؟ وتكفي مطالعة عارضة لمواقع الاستشارات لتقف على مشتكين من وساوس عقدية أو عقد نفسية أو خواطر تخيلية، كانت شرارتها نقولات مترجمة أشعلت لديهم تلك الخواطر والوساوس والشكوك، دون ظهير موازٍ من ثقافتنا يدحض أو يُفنِّد أو يُفهِّم.
ومن الحجج المستعملة لتبرير جائحة الاستيراد من الأجانب وجنون الترجمة عنهم، الإفادة مما لديهم من أدوات معرفية متقدّمة عن المتاح لنا، ولا إشكال في ذلك الهدف إذا كانت المحصّلة حقًّا أدوات تكميلية لاحقة، لا أصول ومناهج البناء العلميّ للمسلم في أساسه؛ إذ لا تقوم المواد المستوردة في أصولها على مخاطبة المسلم مخصوصًا.
بناء عليه، عندما ننتقل للكلام على الإفادة من علوم الغير تحت مسمى «التفتّح الفكري» وغيرها من اصطلاحات، نصير أمام أزمة معرفية سببها: عدم تعريف مضمون تلك الإفادة، ومنهجها، وحدودها التي تبدأ وتنتهي عندها، فتتطرف تلك الإفادة عادة إلى استعراب واردات الأجانب ثم أَسْلَمَتها، لا التوقف عند محض الاستيراد أو محض التعريب:
– فالاستيراد يعني إدخال شيء من الخارج محتفظًا بهيئته الأجنبية، فهذا دَخيل واضح الدَّخْلَة.
– والتعريب هو النقل من اللسان الأجنبي للسان العربي، وفي «معجم المغني»: التعريب صوغ الكلمة الأجنبيَّة بصيغة عربيَّة عند نقلها بلفظها إلى اللُّغة العربيَّة، ككلمة تَلْفَنَ، أي: تحدَّث بالهاتف.
– أما الاستعراب فهو أشد خطرًا لأن الدّخيل فيه هو نفسه يتشبّه بالعرب حتى يظهر كأنه منهم، وليس في حقيقته كذلك، وفي لسان العرب: «اسْتعْرَبَ: صَارَ دخيلًا في العرب، وجعل نفسَه منهم… عَرَبٌ عَارِبَةٌ وَعَرْبَاءُ: صُرَحَاءُ، وَمُتَعَرِّبَةٌ وَمُسْتَعْرِبَةٌ: دُخَلَاءُ لَيْسُوا بِخُلَّص».
وليس القصد الانعزال عمّا حولنا من ثقافات، ولا ذلك حتى في الإمكان، إنّما الشأن أولًا إدراك أن سعة الاطلاع على الثقافات الأخرى لا تتم بالتبرؤ من الثقافة الأم، وثانيًا في كيفية الاستقبال عن الآخر وميزان الأخذ عنه ومرجعية تقييم ما عنده. لذلك لا بد من ترشيد جنون الترجمة والتوقف عن المباهاة بالمترجمات ومكاثرة النقولات لمجرد الترجمة والنقل، والتنافس عليها كأنّ الثقافات الأعجمية هي منبع الحكمة الذي يكفينا شرفًا الغَرْفُ منه على كل أحواله!
وإننا نتعهد الناشئة بالتطعيم والمتابعة البدنية على مدى سنوات في المدارس، أو نتعهدهم بوجبات الطعام في المنزل، لكننا في المقابل نعاني من التقصير الرهيب في الالتفات للصحة النفسية والفكرية لأجيال الشباب وتعهدها، وكم من آفة في البدن أمكن التغلب عليها بإشراق الروح وصِحَّة الفكر، وكم من انطماس في الفكر والروح كانا سبب تداعي البدن!