إن ما رأيناه من صمود وثبات وبأس الفلسطينيين -الذي أذهل العدو قبل الصديق والغريب قبل القريب- لم يكن لولا تربية خاصة تربى عليها الشعب الفلسطيني؛ تربية نضجت ثمارها فآتت أكلها.
وتلك التربية نشأ عليها جيل جديد ترك الخنوع والاستلام خلف ظهره، وتشبث بأرضه وانغرس فيها فما عاد ترهبه المجازر التي يشنها العدو لتهجيره من أرضه واقتلاعه منها، بل يرى أن دماءه المسفوحة على تراب وطنه هي الثمن للحرية والاستقلال.
جيل يضحي بنفسه لنصرة دينه ومقدساته ووطنه فيسترجع الآباء ويحتسبون أولادهم عند الله، وتزغرد الأمهات أن لهن شهداء قدموهن في سبيل الله ودينهم وقضيتهم.
لم يأت هذا الجيل من فراغ، بل هو نتاج آباء وأمهات دققوا في اختيار بعضهم بعضاً، فلم يكن الاختيار لمجرد شهوة يراد تفريغها، بل اختيار لتأسيس لبنة في صرح استقلال الأمة وحريتها.
وإذا كان الإسلام قد تحدث عن الدواعي الدافعة للرجل لاختيار امرأة معينة حينما قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»(1)؛ فإن صحة العقيدة وبرد اليقين والثقة في موعود الله وصحيح التوكل والرضا بأقدار الله والتسليم له هو المعيار الأول والثابت بين الزوجين الفلسطينيين؛ إذ إنه بمعايير الدنيا لا يمكن أن يكون هذا الثبات والإيمان واليقين ناشئ عن عقيدة منحرفة، أو دين وضعي، وقد عرفنا أن الإيمان ليس بكثرة القراءة في كتب العقائد ومتونها؛ فكم من علم اتخذه أصحابه للبغي والجدال والمراء، وليس للعمل وصناعة الأمة وتربيتها.
وقد حاولت التفتيش عن المعايير التي يراعيها الفلسطينيون عند إقدامهم على الزواج؛ فلم أشأ أن تكون أمورًا نظرية أكتبها، بل حاولت التواصل مع بعض الفلسطينيين وتناقشت معهم وتحاورت لأعرف بعض المعايير التي أثمرت تلك الثمرة المباركة.
فوقفت أن هناك معايير منها ما هو رسالي، ومنها ما هو اجتماعي.
والمعايير الرسالية هي المعايير ذات الرسالة، ومن تلك المعايير:
1- وضوح الطريق:
تقول إحدى الأخوات: عند تقدم زوجي لخطبتي أخبرني خبرًا صريحًا قبل حديثه عن عمله وبيته، قال: «هذه طريقنا فإن أحببت التحقتِ معي بها».
وأكدت أن هذا المعيار لا يختص بفئة قليلة في المجتمع الفلسطيني.
والطريق هذه شاقة؛ إذ قد يصاب الإنسان -وهو يسير فيها- في نفسه وماله وولده؛ فقد يعتقل ويمكث في السجن سنين عددًا، وقد يستشهد، وقد ينفى، وقد يفقد بيته بالتفجير أو التهجير، وقد يفقد زوجه، أو ولده الواحد تلو الآخر.
فلا يقدر على تلك التبعات إلا أقوياء العزيمة والإيمان، يستوي في ذلك الرجال والنساء.
وفي نفس المعنى قيل: «يا مخنت العزم أين أنت والطريق؟ طريق تعب فيه آدم، وناح لأجله نوح، ورُمي في النار الخليل، واضجع للذبح إسماعيل، وبيع يوسف بثمن بخس ولبث في السجن بضع سنين، ونشر بالمنشار زكريا، وذبح السيد الحصور يحيى، وقاسى الضر أيوب، وزاد على المقدار بكاء داود، وسار مع الوحش عيسى، وعالج الفقر وأنواع الأذى محمد»(2).
فالطريق أعداؤها كثيرون في الداخل والخارج؛ فالعدو الخارجي من الصهاينة والأمريكيين والأوروبيين.. إلخ لا يألون جهدًا في استئصال شأفة الفلسطينيين أو تدجينهم.
والعدو الداخلي قد يكون جاسوسًا أو عميلاً -حتى ولو كان رئيسًا أو وزيرًا أو شرطيًّا- أو مثبطًا أو مخذِّلاً.
وعليه فالصبر على هذه الطريق والثبات عليها والتواصي على التزامها مفتاح النصر والتحرر والفلاح في الدنيا والآخرة.
2- التوافق الفكري والسياسي:
ليس من آمن بالجهاد سبيلاً للتحرر كمن آمن بالسلام مع يهود، وليس من والى المجاهدين كمن والى العملاء والمنبطحين، وليس من رضي بسيادة يهود كمن عمل على تقويض كيانهم.
لذا، هذا المعيار له اعتباره عند الإقدام على الزواج.
وقد ورد أن شنًّا كان رجلاً من دهاة العرب قال: والله لأطوفن حتى أجد امرأة مثلي فأتزوجها، فسار حتى لقي رجلاً يريد قرية يريدها شن فصحبه، فلما انطلقا قال له شن: أتحملني أم أحملك؟
فقال الرجل: يا جاهل، كيف يحمل الراكب الراكب؟!
فسارا حتى رأيا زرعًا قد استحصد فقال شن: أترى هذا الزرع قد أكل أم لا؟
فقال: يا جاهل أما تراه قائمًا؟!
وسارا فاستقبلتهما جنازة فقال شن: أترى صاحبها حيًّا أم ميتًا؟
فقال: ما رأيت أجهل منك! أتراهم حملوا إلى القبور حيًّا؟!
ثم صار به الرجل إلى منزله وكانت له بنت يقال لها: طبقة، فقص عليها قصته فقالت: أما قوله: «أتحملني أم أحملك»؛ فإنه أراد أتحدثني أم أحدثك حتى نقطع طريقنا.
وأما قوله: «أترى هذا الزرع قد أُكل أم لا»؛ فإنه أراد أباعه أهله فأكلوا ثمنه أم لا.
وأما قوله في الميت فإنما أراد: أترك عقبًا يحيا بهم ذكره أم لا.
فخرج الرجل فحادثه، ثم أخبره بقول ابنته، فخطبها إليها فزوجه إياها، فحملها إلى أهله، فلما عرفوا عقلها ودهاءها قالوا: «وافق شنٌّ طبقة»(4).
المعايير الاجتماعية، وهي التي لا تخلو من بُعدٍ اجتماعي، ومنها:
3- التزاوج من نفس القبيلة أو العائلة:
بأن يتزوج الرجل من ابنة العم أو ابنة الخال.. إلخ.
وهذا التزاوج قد يكون عاملاً من عوامل الدعم والثبات والصبر؛ إذ إن العائلة الواحدة قد تعين الزوجة على الصبر على اعتقال أو استشهاد أو إصابة زوجها؛ فهي تصبر؛ حسب قول إحدى الأخوات: لأن الاعتبارات العائلية لم تدع لها مجالاً آخر، أما النوايا فعلمها عند الله.
4- التزاوج بين أبناء البلد الواحد:
الآباء في الغالب لا يحبون أن يبتعد أبناؤهم عنهم؛ لذا يفضلون الزواج بين أهل البلد الواحد، وينتج عن ذلك السرعة في النجدة والمعاونة عند وقوع المصائب والمتاعب؛ فالأم تستطيع أن تكون بجوار ابنتها إن حل بها ما يسوء، والأب يتفقد ابنه أو ابنته فيصلح المعوج ويسد الخلل، لكن البعد يحمل بين طياته المشقة في التنقل والارتحال، وبالتالي تكون الأسرة الناشئة والأولاد بعيدين عن عين الأجداد والأعمام والأخوال الذين يكونون عونًا في التربية والتوجيه والرعاية.
وأخيرًا فهذه بعض المعايير، التي تسمح بها المساحة المتاحة من المقالة، وقد نكر عليها بالتوسع والإضافة لتكتمل الصورة ولنقف على أسباب أكثر نتج عنها هذا الجيل الذي أذل العدو الصهيوني وأرغم أنفه.
__________________________
(1) أخرجه البخاري في «النكاح»، باب: «الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ..»، ح(5090) من حديث أبي هريرة رضي الله عنه.
(2) الفوائد لابن قيم الجوزية، ص42.
(3) جمهرة الأمثال لأبي هلال العسكري (2/ 337).