لم يعد الإعلام في هذا الزمن أمراً هامشياً، فقد أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا، ومنبراً مهماً لكل فاعل وصاحب حق، وفي سياق الإعلام أصبحت حروب الرواية تُخاض على غرار الحروب على أرض الواقع، إذ يُنشئ القاتل مظلومية مبتدعة عبر إعلامه وإعلام داعميه، وينشر الغالب روايته ليسحق فيها ما بقي للمغلوب من فعل أو ذرائع، وهكذا تمضي السنوات الأخيرة، والجلاد يظهر عبر إعلامه بمظهر البطل، والضحية -الحقيقيّة- هي الملامة دائماً، مهما تجرعت من كؤوس القهر، والذل، والقتل، والتهجير.
لم تكن الحرب الأخيرة والعدوان المستمر على قطاع غزة بعيدة عن النموذج سالف الذكر، فقد استنفر العالم، منذ 7 أكتوبر 2023م، ليلقوا باللائمة على الضحايا من الفلسطينيين، ويحولوا الحقائق بقدر ما استطاعوا، لا لشيء إلا ليخدموا الاحتلال ويشرعوا أساطيره ويظهروا روايته، حتى تحول سؤال: هل تدين «حماس»؟ إلى لازمة مكررة في عشرات البرامج الحوارية والإعلامية، وتجاوزوا بشكل متعمد تأسيس الكيان السرطاني في داخل بلادنا، وما ارتكبه من فظائع وجرائم، وما يقوم به من قتل واستيطان، فكان للمحتل حشد إعلامي مهول، يشبه حشودهم العسكرية والسياسية التي دعمته بوسائل القتل وأدوات الإبادة، وقد ظنوا أن ألاعيبهم تلك ستؤتي أُكلها، وأن هذه الوصفة التي جربوها مراراً ستصل بهم إلى النتيجة نفسها، وينفذون جرائمهم من دون أي رقيب أو حسيب.
الإعلام أصبح جزءاً لا يتجزأ من حياتنا ومنبراً مهماً لكل فاعل وصاحب حق
إلا أن الزمن قد تغيّر، وباستطاعة كل شخص أن يكون إعلامياً، يقدر أن يوثق ما يراه من مشاهد وفظائع، وكانت لوسائل التواصل الاجتماعي دور كبير في إظهار أهوال ما يجري في غزة، والفظائع التي ترتكبها قوات الاحتلال، إن في الجو أو البحر أو البر، وعلى الرغم من سيل المقاطع والمشاهد، فإن الاحتلال ما يزال يخاف من صوت الإعلامي الحُر الشريف، فمنذ بداية الحرب عمل على جبهتين اثنتين ليكمم أفواه الإعلاميين.
أما الجبهة الأولى؛ فكانت منعه دخول الصحفيين الأجانب إلى غزة، بذرائع واهية، وحجج متهافتة، إلا أنه وبحقيقة الأمر لا يُريد لأي صوت غربي أن يعاين هول المأساة عن قرب، مع أن وجودهم لن يفيد البتة، فالحقائق باتت مكشوفة لكل ذي قلب.
أما الجبهة الثانية؛ فقد تمثلت بتصعيده من استهداف الصحفيين والمراسلين الفلسطينيين، ولو كان بعضهم لا ينشر إلا على حساباته الشخصية فقط، فجلهم معرَّض للقتل والقصف والخطف، وتلقى الكثير منهم تهديدات مباشرة من قوات الاحتلال، وقد تجاوز عدد الشهداء من الصحفيين، حتى لحظة كتابة هذا المقال، نحو 119 شهيداً، ارتقى بعضهم وهو بين أهله وعائلته في منزله، واستشهد بعضهم الآخر وهو يتابع عمله في تغطية الأحداث في القطاع.
صوت غزة
وقد كان الصحفي في قناة «الجزيرة» وائل الدحدوح نموذجاً للإعلامي الفذّ، صاحب الباع الطويل والنظر الثاقب، والمتابعة الدقيقة لكل تطورات العدوان، وهو إلى جانب استمراره في أدائه رسالته الإعلامية على الرغم من استهدافه وعائلته بشكل متكرر، شكل نموذجاً للصبر، والإصرار على إيصال صوت غزة ومعاناتها إلى العالم، وهو كحال كل فلسطيني في القطاع، ليس خالياً من الهموم، فعلى غرار أهله وخلانه، يعاني لكي يؤمن القوت والمياه النظيفة وغيرها من متطلبات الحياة الأساسية له ولأسرته، فقد استهدفته قوات الاحتلال أكثر من مرة، وتابعنا في أشهر الحرب الماضية ما عاناه الصحفي البطل من خسائر متتابعة.
الدحدوح نموذج للصحفي الأبيّ الذي لم يتخاذل عن إيصال معاناة غزة للعالم
وكانت أولى المصائب التي لحقته، ما جرى في أكتوبر 2023م، فقد استهدفت طائرات الاحتلال منزلاً لجأت إليه أسرته، فارتقى في القصف زوجة الصحفي وائل الدحدوح أم حمزة، وابنه محمود الذي كان يريد أن يصبح صحفياً كوالده، وابنته شام، وعدد من أفراد أسرته، وكانت صورة بكاء الدحدوح وتصبيره لذويه وهو يقول: «معلش.. ينتقمون منا في الأولاد»! كلمات منيرة في ديجور الظلم الهادر، وعلى الرغم من هذا المصاب الجلل، فإن الدحدوح وبعد بضع ساعات من تشييع أفراد أسرته، عاد إلى الشاشة وهو مكلوم الفؤاد، كسير القلب، يوصل صوت الحرية والحق والحقيقة، حتى أطلق عليه البعض لقب «جبل المحامل»، فهو جبل أشم من الصبر والإصرار والتحمل.
ولم يكن هذا الاستهداف للدحدوح الوحيد، ففي 15 ديسمبر 2023م، استهدفت طائرات الاحتلال الصحفي الدحدوح وهو يتابع أوضاع النازحين من منازلهم وما يلاقونه من مصاعب، وقد أدى الاستهداف إلى إصابته إصابة مباشرة، ونجاه الله تعالى، ولكنه أصيب إصابات كبيرة أثرت على يده وأجزاء مختلفة من جسده، بينما لم يستطع زميله المصور سامر أبو دقة الخروج من مكان الاستهداف، وبقي ينزف ساعات طويلة بسبب استهداف الطواقم الطبية من قبل قوات الاحتلال حتى ارتقى شهيداً.
رسالة صهيونية
وقد أشار الدحدوح إلى أن هذا الاستهداف رسالة مباشرة من الاحتلال، لكي يتوقف عن نقل ما يجري في القطاع، وقد سبقه استهداف منازل عدد من الصحفيين في القطاع، وتواصُل مخابرات الاحتلال مع عدد منهم لكي يتوقفوا عن نشر ما يقوم به العدو من مجازر وفظائع.
إعلاميو غزة يشاركون في الدفاع عن القطاع بسلاح الحقيقة وبأدوات بسيطة
وآخر ما خسره الدحدوح، كان اغتيال ولده البكر الصحفي حمزة الدحدوح، الذي ارتقى في 7 يناير 2024م، بقصف استهدف سيارته جنوبي قطاع غزة، وقد نعاه والده وائل بكلمات تذوب رقة وحزناً ولوعة، فكان مما قاله: «ليس أصعب من آلام ووجع الفقد، فكيف إذا كان الفقد الولد البكر فلذة الكبد، حمزة ليس بضعة مني حمزة كان كلي، روح الروح وكل شيء».
وبقي الدحدوح مخلصاً لرسالته الصحفية، ورسولاً لآلام أهله وذويه في القطاع، حتى اضطر للخروج من غزة ليتابع تلقيه العلاج في العاصمة القطرية الدوحة، وكل صورة تخرج له في الدوحة تحمل بعضاً من المرارات التي مر بها، وقبساً من حزن فلسطيني اضطر للخروج من أرضه.
الدحدوح نموذج للصحفي الأبي، الذي لم يتخاذل أو ينكفئ، وصوت حر رافقنا منذ زمن طويل، واكبنا معه كل عدوان شنه الاحتلال على القطاع، وكل حرب استطاعت فيها المقاومة أن تكسر المحتل وتذيقه الويلات.
الدحدوح نموذج لإعلاميي غزة الأبطال، الذين يشاركون في الدفاع عن القطاع وعن فلسطين، بسلاح الحقيقة، وبأدوات إعلامية بسيطة جداً، وعلى الرغم من ذلك يلاقون من الأذى والقتل والصلف الصهيوني الكثير، الدحدوح ورفاقه صوت غزة الذي يجب ألا يغيب أو ننساه.