في خضم الحياة اليومية، وانفتاح الناس على العالم، نلحظ انشغال كثير من الناس بالمطاعم والملابس والمراكب والمساكن، واهتمامهم بالماركات والموضات العالمية، وأسواق المال والأعمال، حتى أصبحت الحياة المادية أكبر همهم ومبلغ علمهم، فيفرحون عند الظفر بها ويستاؤون إن هي ضاعت منهم، أما ما يخص حياة القلب ونعيم الروح، فالناس فيه أزهد ما يكون، إلا من رحم الله، وهذا ما أثار اندهاش وهب بن منبه فقال: «واعجبًا من الناس! يكون على من مات جسده، ولا يبكون على من مات قلبه وهو أشد».
فهل فعلًا يستحق القلب أن نعتني به، وأن نبكي عليه؟ ولماذا القلب دون غيره من أعضاء الجسد؟!
أولًا: لأن القلب حقيقة الإنسان:
الإنسان ما هو إلا قلب يمشي على الأرض، يسعى بقدمين، ويقوى بساعدين، يقول الغزالي: «القلب لطيفة ربانية روحانية متعلقة بالقلب الجسماني، تلك اللطيفة هي حقيقة الإنسان، فهو المدرك العالم العارف من الإنسان، وهو المخاطب والمعاقب والمعاتب والمطالب»، القلب رمز الحياة، وحقيقة الإنسان، فهو في الدنيا جماله وفخره وفي الآخرة عدته وذخره، له في جسم الإنسان المكانة الأولى؛ وله على جميع الجوارح اليد الطولى، اتحد شكلهُ في كل البشر واختلفت حقيقته باختلاف البشر، فقلب أصفى من الدرر، وقلب أقسى من الحجر، قلب يحوم حول السماء وقلب يجول حول الخلاء.
ثانيًا: لأن القلب ملك الأعضاء والجوارح:
قال النبي ﷺ: «ألَا وإنَّ في الجَسَدِ مُضْغَةً: إذَا صَلَحَتْ صَلَحَ الجَسَدُ كُلُّهُ، وإذَا فَسَدَتْ فَسَدَ الجَسَدُ كُلُّهُ؛ ألَا وهي القَلْبُ»، وقال أبو هريرة: «القلب ملك الأعضاء، والأعضاء جنوده ورعاياه، فإذا طاب الملك طابت الجنود والرعايا، وإذا خبث الملك خبثت الجنود والرعايا».
فبين القلب والأعضاء صلة عجيبة إذ إن كل الجوارح تحت أمره وسيطرته وقهره، فإذا زاغ البصر فلأنه مأمور، وإذا كذب اللسان فلأنه مقهور، وإذا سعت القد إلى الحرام، فسعي القلب إليه أسبق، ولهذا قيل عن المصلي العابث في صلاته: «لو خشع قلب لهذا لخشعت جوارحه».
وفي المسند قال ﷺ: «لا يستقيم إيمان عبد حتى يستقيم قلبه»، قال ابن رجب: والمراد باستقامة إيمان العبد استقامة أعمال الجوارح، فإن أعمال الجوارح لا تستقيم إلا باستقامة القلب».
إذ إن أعمال الجوارح على التحقيق ما هي إلا ثمرات أعمال القلب.
ثالثًا: لأن القلب محل نظر الرب:
يقول النبي ﷺ: «إنَّ اللَّهَ لا يَنْظُرُ إلى صُوَرِكُمْ وأَمْوالِكُمْ، ولَكِنْ يَنْظُرُ إلى قُلُوبِكُمْ وأَعْمالِكُمْ»، فمن القلوب قلب كقبور الموتى، ظاهرها الزرع والورود، وباطنها الجيف والموت، وإن تعجب! فعجب صنيعهم يعتنون بالمظهر والهندام الذي هو محل نظر الخلق، فيغسل ثوبه، وينظف جلده، ويعتني ببشرته، ويحرص على كمال زينته لئلا يطلع مخلوق على عيب فيه، ثم لا يهتم بقلبه الذي هو محل اطلاع الخالق، فيطهره من الحسد وحب الشهوات، ويزينه بالخشية والمراقبة والطاعات.
لقد وصف الله المشركين بأنهم نجس لخبث باطنهم واستحواذ الشرك على قلوبهم، فهي نجاسة معنوية تتلخص في أمراض قلوبهم من الكبر والظلم والحسد، وهذه النجاسات ليست قاصرة على قلوب المشركين فحسب، بل قد توجد في بعض قلوب المسلمين.
رابعًا: لأن القلب بيت الملائكة:
وفي الحديث، قال ﷺ: «إن الملائكة لا تدخل بيتاً فيه كلب ولا صورة»، والملائكة هي سفن الرحمات والأنوار إلى قلوب العباد الأطهار، فإذا كان القلب مشحوناً بالمخالفات فلن تدخله الملائكة.
ولذا، قال الإمام الغزالي: «والقلب بيت هو منزل الملائكة ومهبط أثرهم ومحل استقرارهم؛ والصفات الرديئة مثل والغضب والشهوة والحقد والحسد والكبر والعجب وأخواتها كلاب نابحة فأنى تدخله الملائكة وهو مشحون بالكلاب ونور العلم لا يقذفه الله تعالى في القلب إلا بواسطة الملائكة؛ (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَن يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِن وَرَاء حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ) (الشورى: 51)».
خامسًا: لأن القلب بيت الإيمان والتقوى:
وهذا ما أكده النبي ﷺ بقوله: «التقوى ها هنا» (ثلاث مرات) وهو يشير إلى صدره الشريف على أنه وعاء التقوى التي هي سر مستودع في القلب لا يطلع عليه أحد.
وعن حذيفة قال: حَدَّثَنَا رَسولُ اللَّهِ ﷺ حَدِيثَيْنِ، رَأَيْتُ أحَدَهُما وأَنَا أنْتَظِرُ الآخَرَ: حَدَّثَنَا: «أنَّ الأمَانَةَ نَزَلَتْ في جَذْرِ قُلُوبِ الرِّجَالِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ القُرْآنِ، ثُمَّ عَلِمُوا مِنَ السُّنَّةِ»، والأمانة هنا عين الإيمان، وقد أثبت الحديث أن الإيمان نزل أول ما نزل في القلوب، تعبيرًا عن الفطرة السوية التي يولد بها العبد، ثم يزداد الإيمان بتعلم القرآن والسُّنة والعمل بهما إلى أن تتمكن الأمانة فيقوم العبد بتنفيذ الأمر واجتناب النهي بكل طواعية وحب وتسليم.
سادسًا: لأن القلب موطن الانقلابات:
كان من دعاء النبي: ﷺ: «اللهم يا مقلب القلوب ثبت قلبي على طاعتك»، وصحح الألباني حديثًا جاء فيه: «إنَّما مَثلُ القَلبِ كمَثلِ ريشةٍ مُعلَّقةٍ في أصلِ شجرةٍ تُقلِّبُها الرِّيحُ ظَهرًا لبَطنٍ»، وفي حديث المقداد قال: سمعت رسول الله ﷺ يقول: «لَقلبُ ابنِ آدمَ أسرَعُ تقلُّبًا منَ القِدرِ إذا استَجمَعَت غَلياناً».
فالقلب أرق أعضاء الإنسان وأسرعها تأثرًا بما يحيط به ويغشاه، ومن رقته أنه تؤثر فيه أدنى خاطرة، وأقل فتنة، وأثر القليل عليه كثير، وإن قلب المرء وإن صفا حيناً، وثبت على إيمانه زماناً، واستلذ به وقتاً، فإنه معرض للانقلاب والانتكاسة، وهذه هي طبيعة القلوب.
فما سمي القلب قلباً إلا من تقلبه فاحذر على قلبك من قلبٍ وتقليب.
سابعًا: لأن سلامته شرط النجاة:
أورد القرآن الكريم أمنية خليل الله إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ {87} يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ {88} إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) (الشعراء)؛ والقلب السليم هو الذي سلم من كل شيء إلا من عبوديته لربه، ولذا كان غرض كل العبادات في الإسلام هو الوصول إلى القلب السليم، فالصلاة خشوع للقلب، والصيام تدريب للقلب، والزكاة طهارة للقلب، والحج خضوع واستسلام من القلب.
وقد أجمع السائرون إلى الله تعالى على أن القلوب لا تُعطَى مُناها حتى تصل إلى مولاها، ولا تصل إلى مولاها حتى تكون سليمة، فمـَن حافظ على سلامة قلبه فقد فاز بأحسن ما ينفعه عند لقاء الله، فإنه لا نجاة يوم القيامة إلا لمن سلم قلبه من كل ما لا يحبه الله.
ثامنًا: لأن طهارته شرط لدخول الجنة:
فمن كان قلبه ملوثًا غير طاهر فلن يدخل الجنة، ولذا ذم الله تعالى أصحاب القلوب الخبيثة من اليهود والمنافقين بقوله: (أُولَٰئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَن يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ ۚ لَهُمْ فِي الدُّنْيَا خِزْيٌ ۖ وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيم﴾ (المائدة: 41)، فأثبت لهم خزي الدنيا وعذاب الآخرة لما في قلوبهم من خبث النفاق والكفر.
وفي صحيح مسلم: «ولا يَدْخُلُ الجَنَّةَ أحَدٌ في قَلْبِهِ مِثْقالُ حَبَّةِ خَرْدَلٍ مِن كِبْرِياءَ»، فالجنة حرام على من كان قلبه ملوثًا خبيثًا لأنها مأوى المحسنين، ومثوى الطيبين، لذا ينادى عليهم وهم على مشارف الجنة: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ) (الزمر: 73).
فمن أراد سعادة الدنيا، ونعيم القبر، وجنة الله في الآخرة، فليتعهد قلبه، وليتفقد مواطن خلله، وأسباب مرضه، وليتعجل بالعلاج ما استطاع قبل أن ينزل به الموت، فيأتي عليه يوم لا ينفع فيه مال ولا بنون، إلا من أتى الله بقلب سليم.