في رمضان الصيام والقيام يعلو الجهاد، وتكبر وتتوالى الانتصارات، ليس عبثاً أن نقول ذلك، ولنا في رسولنا القائد والتابعين من بعده أسوة حسنة، بعد أن ترجموا ذلك واقعاً عملياً، فجاءهم النصر توالياً بعد أن خاضوا المعارك والغزوات في رمضان، وجعلوا منه شهر الانتصارات، فكانت غزوة «بدر الكبرى»، و«فتح مكة»، و«القادسية»، و«حطين»، و«فتح الأندلس»، و«بلاط الشهداء»، و«عين جالوت».
المقاومة بدورها استغلت الحالة الإيمانية وحالة التعبئة والتحريض، التي يكون عليها المجاهدون الذين يقضون نهارهم في رباطهم وليلهم في محاريبهم، فعكفت على تنفيذ عملياتها وخوض القتال في رمضان، وجعلت من العبارة التي تقول: «رمضان شهر الانتصارات» هدفاً لخوض المعارك، وتسطير الملاحم، لتحقيق الانتصارات، وكسب الجولات، كما جعلت منه مناسبة لزيادة عملياتها وجولاتها القتالية.
رمضان بالنسبة للفلسطينيين شهر رماح فوق أسنة العنان وأرواح تتطاير نحو الجنان
رمضان بالنسبة لأهل فلسطين الذين يرزحون تحت احتلال ظالم هو شهر جهاد وانتصارات، وتعالٍ على الشهوات، شهر عطاء وقرآن، ورماح فوق أسنة العنان، وأرواح تتطاير نحو الجنان، يحمل بين طياته معاني البذل والتضحية، نتيجة ارتفاع هرمون التقوى والورع وزيادة المؤثرات الدينية، التي تنعكس بصورة فعالة وقوية على المقاومين فتزداد عمليات المقاومة ويرتفع منسوبها ضد الاحتلال، والمتابع الجيد يستطيع أن يلحظ ذلك جلياً عند تتبع عمليات المقاومة على مدى السنوات السابقة.
الصوم ركن من أركان الإسلام، والجهاد ذروة سنامه، فيه العزة والكرامة، وهو أفضل الأعمال وأجلها، لقول الله عز وجل: (وَقَاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَكُمْ وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ) (البقرة: 190)، فكيف إذا اجتمع مع الصيام للذود عن الأرض والعرض؟ حينها يكون الآجر مضاعفاً، فترى الشباب المقاوم يتسابقون في الطاعات وكسب الخيرات، وأعظمها عند الله الجهاد، وتقديم الأنفس رخيصة في سبيل الله، فتزداد عمليات المقاومة الفردية والجماعية، المنظمة وغير المنظمة، ويرتفع منسوبها، وتزداد وتيرتها، طمعاً في الجنة والمغفرة ونيل رضوان الله، امتثالاً لقول الرسول صلى الله عليه وسلم: «من مات ولم يغز ولم يحدث نفسه بالغزو مات على شعبة من النفاق» (رواه مسلم).
ارتباط وثيق
إن ارتباط الجهاد بشهر رمضان ارتباط وثيق بين رفيقين عزيزين، ارتباط تآلف وموافقة، فرمضان صومه لا رياء فيه، وكذلك الجهاد لا رياء فيه، ورمضان صيامه صبر على تحمل المشقة، وكذلك الجهاد صبر على تحمل المشقة، ومن أجل هذا كان الصوم تدريبًا على الجهاد، فليس عبثاً أن يضاعف المقاومون جهادهم ومقاومتهم في رمضان تيمناً بسيرة رسولهم الكريم وسلفهم الصالح من الصحابة والتابعين الذين جاهدوا في رمضان، وخاضوا المعارك وحققوا الانتصارات الكبيرة، والفتوحات العظيمة.
لقد علم المقاومون في فلسطين عظم أجر الجهاد ومضاعفته في رمضان، وأدركوا منزلة الشهداء بعد النبيين والصديقين، (وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا) (النساء: 69)، فأحيوا أيامهم في الصيام والطاعات ومجابهة الأعداء والذود عن المقدسات والأوطان صابرين محتسبين مؤمنين بأن طريقهم الى إحدى الحسنيين النصر أو الشهادة.
الشهر الفضيل على مدى الأعوام السابقة شهد العديد من عمليات المقاومة ضد العدو الصهيوني
لا تنفك المقاومة الفلسطينية من استغلال كل الظروف لاستمرار المواجهة بينها وبين العدو الصهيوني، وبقاء جذوة المقاومة مشتعلة على كافة الجبهات والأصعدة، واستمرار ديمومة القتال والدفاع، وخوض معارك التحرر بصرف النظر عن مستوى المواجهة وساحتها، إلا أنها تكثف من مقاومتها وعملياتها في رمضان الذي يصبح حينها شهراً للصيام والرباط والجهاد، ولعل تاريخ المقاومة الفلسطينية يؤكد أنها تعمدت في كثير من الأحيان تنفيذ وزيادة عملياتها وهجماتها القوية ضد الاحتلال الصهيوني في رمضان، لما له من دور تعبوي وتعبدي لدى المسلمين والفلسطينيين منهم خاصة، كونهم أهل القضية الذين يعانون من الاحتلال وويلاته، فقد شهد رمضان في السنوات السابقة العديد من الهجمات وعمليات المقاومة ضد العدو الصهيوني، منها على سبيل المثال لا الحصر:
– العملية المزدوجة التي نفذها الاستشهاديان أسامة بحر، ونبيل حلبية في رمضان 2001م ضد موقع للجيش الصهيوني في القدس، فقتلا 11 صهيونياً، وجرحا 190 آخرين.
– عملية الاقتحام التي نفذها المقاومان جهاد المصري، ومسلمة الأعرج لمستوطنة إيلي سيناي شمال غزة، وقتلا عالماً نووياً صهيونياً، وجرحا 5 آخرين.
– العملية التفجيرية التي نفذها الاستشهادي ماهر حبيشة من نابلس في إحدى حافلات حيفا، فقتل 16 صهيونياً وجرح 55 آخرين، وحين أحضر له رفاقه طعام الإفطار قبل العملية رفض، قائلاً: «سأفطر هذه الليلة في الجنة».
– في رمضان (عام 2002م) قتل المقاومون أكرم الهنيني، وولاء سرور، وذياب المحتسب، 12 صهيونياً، وجرحوا 18 آخرين، في العملية التي نفذوها ضد مستوطني كريات أربع قرب الخليل، وفي العام ذاته فجر الاستشهادي سامي أبو هليل من الخليل حزامه الناسف في شارع مكسيكو بالقدس، فقتل 12 صهيونياً وجرح 47 آخرين.
– في رمضان (عام 2004م) خاضت المقاومة معركة «أيام الغضب» رداً على اقتحام الجيش الصهيوني شمال غزة استمرت 17 يوماً في رمضان، دارت خلالها العديد من المعارك الضارية والاشتباكات التي أجبرت الاحتلال على الانسحاب دون تحقيق أهدافه، كما نفذ الاستشهاديان عبدالعزيز الجزار، وعبدالستار الجعفري عملية نوعية عند معبر صوفا جنوب غزة أصابت 6 من جنود الاحتلال بجراح متفاوتة.
– في رمضان (عام 2010م) أطلق مقاومون النار على سيارة للمستوطنين في الخليل، فقتلوا 4 منهم.
– في رمضان (عام 2015) أطلق فلسطيني النار على سيارة للمستوطنين من مسافة صفر، قرب مستوطنة دوليف بمحيط رام الله، فقتل مستوطناً وأصاب آخر، كما نفذ فلسطيني من الخليل عملية طعن قرب باب العامود بالقدس المحتلة استهدفت شرطيين صهيونيين.
– في رمضان (عام 2016م) نفذت المقاومة 10 عمليات فدائية تنوعت بين إطلاق النار والطعن، فقتلت 6 صهاينة وجرحت 15 آخرين، أخطرها كانت عملية إطلاق النار التي نفذها أبناء العم محمد، وخليل مخامرة من بلدة يطا داخل مجمع سارونا التجاري قرب وزارة الحرب الصهيونية، فقتلا 4 مستوطنين، وأصابا 40 آخرين.
– عملية الطعن التي نفذها 3 فلسطينيين من عائلة جبارين من أم الفحم في القدس في رمضان (عام 2017م)، التي أسفرت عن قتل اثنين من الجنود، وعملية إطلاق النار والطعن المزدوجة التي نفذها 3 فلسطينيين من رام الله في القدس، في العام نفسه فقتلوا مجندة وأصابوا اثنين من الجنود.
اليوم تدخل حرب غزة شهرها السادس، مارست فيها دولة الاحتلال وجيشها النازي حرب إبادة وتجويع وقتلت وجرحت ما يزيد على 100 ألف فلسطيني ودمرت كل مناحي الحياة، وقصفت البيوت والمستشفيات والمساجد ومراكز المساعدات ومقرات «الأونروا»، ويصادف دخولها حلول شهر رمضان المبارك، التي أعلنت فيه المقاومة مواصلة عملياتها وتصديها لقوات الاحتلال رغم الألم والتضحيات الجسام، إيماناً منها بأنه شهر الفتوحات والانتصارات، لعل الله يحدث فيه أمراً يعز فيه أهل فلسطين عامة، وأهل غزة خاصة، ويفرح المؤمنون فيه بنصر الله؛ (وَيَقُولُونَ مَتَى هُوَ قُلْ عَسَى أَن يَكُونَ قَرِيبًا) (الإسراء: 51).