غالباً ما ينصرف الذهن عند الحديث عن الشواذ إلى الشذوذ الجنسي، ولا شك أنه إحدى الكبائر الموبقات المهلكات؛ لما تمثله من انتكاس للفطرة الإنسانية، ولكن تجدد ظهور نوع آخر من الشذوذ، وهو الشذوذ الفقهي، ومصطلح الشذوذ مصطلح متداول في المدونات العلمية، سواء في مدونات علم الحديث، أو في علم الفقه، أو في علم الأصول، أو في غيرها.
وقد أولع بعض المنتسبين إلى العلم والفقه بإخراج الفتاوى الشاذة، وهي التي تفرد بها بعض العلماء، وخالفوا بها جماهير الفقهاء أو خالفوا بها إجماع العلماء، مثل القول بجواز إمامة المرأة للصلاة، أو إمامة المرأة للمسلمين في الحكم في باب الخلافة، أو حِل يسير الخمر أو كون شرب الدخان ليس مفسداً للصيام، أو حل العلاقة المحرمة، أو غيرها من الأقوال التي تعد شاذة من جهة مخالفة جماهير الفقهاء، ومن جهة وهن دليلها.
تعريف الشذوذ
في اللغة: هو الانفراد عن الغير، أو الخروج عن الجماعة، فكل شيء منفرد فهو شاذ.
عند المحدثين: عرفه الشافعي كما في «المجموع» (1/ 101): «هو أن يروي الثقة حديثاً يخالف ما روى الناس، وليس من ذلك أن يروي ما لم يرو غيره، وحكي ذلك عن جماعة من الحجازيين، والذي عليه حفاظ الحديث أن الشاذ ما ليس له إلا إسناد واحد، يشذ به ثقة أو غير ثقة ويتوقف فيما شذ به الثقة ولا يحتج به ويرد ما شذ به غير الثقة».
والرأي الشاذ عند الفقهاء: هو الرأي الذي يقابل الرأي الصحيح، جاء في حاشية ابن عابدين (1/ 50): «الأصح مقابل للصحيح، والصحيح مقابل للضعيف، لكن في حواشي الأشباه لبيري: ينبغي أن يقيد ذلك بالغالب؛ لأنا وجدنا مقابل الأصح الرواية الشاذة كما في شرح المجمع».
وقال النووي في «المجموع» (2/ 83): «قد يجزم نحو عشرة من المصنفين بشيء وهو شاذ بالنسبة إلى الراجح في المذهب ومخالف لما عليه الجمهور».
معايير الرأي الشاذ
يمكن استخلاص معايير الشذوذ الفقهي من خلال كلام الفقهاء، وذلك على النحو التالي:
الأول: مخالفة الإجماع: فكل رأي خالف الإجماع فهو رأي شاذ خارج عن مجموع فقهاء الأمة، قال الإمام أبو حامد الغزالي في «المستصفى» (ص 371): «الشاذ عبارة عن الخارج عن الإجماع بعد الدخول فيه».
الثاني: المخالفة بعد الموافقة: كما قال الآمدي في «الإحكام» (1/ 238): الشاذ هو المخالفة بعد الموافقة، لا من خالف قبل الموافقة.
الثالث: مصادمة مقاصد الشريعة وقواعدها:
قِدَم الآراء الشاذة
الآراء الشاذة ليست وليدة اليوم، بل كانت موجودة في كل عصر من العصور، بدءاً من عصر الصحابة إلى يومنا هذا، ولكن تختلف النسبة فيها وكذلك تختلف الدوافع من ورائها، اجتهاداً ونشراً.
ولعل ما يشير إلى قِدَم وجود الآراء الشاذة ما ذكره ابن خلدون في «تاريخه» (1/ 18) عن الخليفة أبي جعفر المنصور حين أشار على الإمام مالك بتأليف «الموطأ»، قال: يا أبا عبدالله، إنه لم يبق على وجه الأرض أعلم مني ومنك، وإني قد شغلتني الخلافة، فضع أنت للناس كتاباً ينتفعون به، تجنبْ فيه رخص ابن عباس، وشدائد ابن عمر، وشواذ ابن مسعود، ووطّئه للناس توطئة، قال مالك: فوالله لقد علمني التصنيف يومئذ.
نماذج من الآراء الشاذة
بل اشتهر عن بعض الصحابة كابن عمر، وابن عباس رضي الله عنهما بعض الآراء الشاذة، كإباحة ربا الفضل ونكاح المتعة من ابن عباس، وحُكي أنه رجع عنهما، وإدخال ابن عمر الماء في عينيه أثناء الوضوء.
واستمرت الآراء الشاذة بعد عصر الصحابة، من ذلك فتوى الأعمش في عدم اشتراط الطهارة لصلاة الجنازة، وفتوى أشهب من أن الواجب مسح الباطن من الخفين، ومنه فتوى الظاهرية أن من ترك الصلاة متعمداً فليس عليه أن يأتي بها في غير وقتها، لأنه ليس نائماً ولا ناسياً، وفتوى أبي داود الظاهري بجواز قراءة القرآن للجنب، ومنها: جواز العقيقة عن الكبير، وغيرها من الآراء الشاذة.
أسباب الشذوذ الفقهي
تتعدد أسباب الشذوذ الفقهي، فمنها:
– ضعف التكوين الفقهي، وعدم إدراك الصحيح من الضعيف، أو الراجح من المرجوع، وبالجملة هنا ضعف التكوين الأصولي لدى طالب العلم، أو بعض المثقفين من غير المتخصصين، الذين يطيرون فرحاً عند وجود رأي شاذ، مستندين وجوده في التراث الفقهي، غير مميزين بين صحيحه وسقيمه.
– غياب المقاصد في الاجتهاد؛ فإن من تشرب البحث عن المسائل الجزئية، ولم يراع الأصول الكلية، ولم يعِ مقاصد الشريعة، كان أقرب إلى تلك الآراء الشاذة، سواء وقع فيها اجتهاداً، أو فتش عنها ونشرها.
قال الشاطبي في «الموافقات» (3/ 442): «ينبغي للمجتهد النظر في المآلات قبل الجواب عن السؤالات».
– حب تتبع الغرائب؛ فهناك أشخاص من أهل العلم والمنتسبين إليه يحبون تتبع الغرائب من الأقوال الفقهية، ويرى في إخراجها نوعاً من التميز لدى شخصيته، وأنه أعلم بغيره من خلال إخبار الناس عن تلك الآراء الشاذة، ناسياً أو متناسياً أن كثيراً من أهل العلم يعرفون تلك الآراء، لكنهم يعرفون أن حقها الستر لا الفضح والنشر.
– حب الظهور؛ فبعد تطور وسائل التواصل الاجتماعي والتطور التكنولوجي وظهور بعض المشايخ على شاشات التلفاز والفضائيات، يوسوس الشيطان لبعض أهل العلم من أنه يجب أن يظهر أنه هو الفقيه الأوحد، العلم العلامة، الفهم الفهامة، حبر الأمة، وإمام الأئمة، فيدخل في ذلك حب الشهرة، والإعجاب بالنفس حتى يكون حديث الناس، وأن يلفت الأنظار إليه بين الحين والآخر، وكأنه يريد أن يقول للناس: أنا هنا، أنا الفقيه، أنا المفتي! ويريد أن يوهمهم أنه مجدد الإسلام في ذلك العصر، وأنه يتميز بفهمه الثاقب، وأنه مجدد الخطاب الديني، وأنه أولى الناس بفهم الإسلام، وقد صدق فيه قول الله تعالى: ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ (الأنعام: 43).
ولهذا، فإن الواجب على الناس أن يأخذوا دينهم ممن كان متمكناً من العلم، عاملاً به، صالحاً فيما بينه وبين ربه، مصلحاً فيما بينه وبين الناس، فكم من الناس يحفظون ولا يعملون، وكم ممن يعملون لا يخلصون، وإنما العلم الخشية لله، وقد ترجم الدارمي في سننه بابا بعنوان «من قال العلم الخشية وتقوى الله»، وفي «تفسير يحيى بن سلام» (2/ 786): «عن عبد الله بن مسعود قال: ليس العلم رواية الحديث ولكن العلم الخشية».
وفي «إحياء علوم الدين» (1/ 64): «وقال ابن مسعود رضي الله عنه: أنزل القرآن ليعمل به فاتخذتم دراسته عملاً، وسيأتي قوم يثقفونه مثل القناة ليسوا بخياركم، والعالم الذي لا يعمل كالمريض الذي يصف الدواء وكالجائع الذي يصف لذائذ الأطعمة ولا يجدها».
خطر الآراء الشاذة في الفقه
إن الآراء الشاذة لها خطر، بل أخطار على العلم والمجتمع، ومن أهم أخطارها أنها توهن الدين في نفوس العامة، فإن الناس ليسوا أنعاماً تساق، فللناس عقل وقلب، فإذا رأوا المفتي أو المثقف ينشر الآراء الشاذة تجرأ هؤلاء على الدين، واستحلوا ما هو أكبر من المحرمات، بحجة قولهم: انظر إلى الشيخ الفلاني ماذا قال.
ومن أخطارها أنها تلهي الناس عن الأمور الجسام والمسائل العظام، فيسود الجدل في المجتمعات، وتتصارع الفئات وتتعالى الأصوات وتكثر الجلبة من غير فائدة، سوى الشقاق والنفاق، وقاتل الله من كان السبب.
ومن أخطارها قلة احترام الناس للعلماء، وامتهانهم لأنهم يعلمون أن بعضهم أصحاب شهوة أو سلطة أو جاه، وأنهم لم يريدوا بكلامهم وجه الله ولا خدمة الدين، وفي ذلك الخطر من الآثار ما لا يعلمه إلا الله.
وذلك المسكين الذي يفتي الناس بالآراء الشاذة يظن أنه يفوز منها بما يبطن من خبايا، ولكنه غاب عنه كثير من الزوايا، وإن اكتسب هو شهرة أو جاهاً، فقد أوهن الدين عند كثير من العوام والجهال، فيخسر العالم من آخرته بقدر ما أفسد من دين الناس، وعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة، ويصدق فيهم قوله سبحانه: ﴿قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً {103} الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً﴾ (الكهف).
وقد حذر الله تعالى العلماء وأهل العلم أن يشتروا بالعلم ثمناً قليلاً من متاع الدنيا، وأوجب عليهم قول الحق الذي يعلمونه، فقال سبحانه: ﴿وَإِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثَاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَلَا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَرَاءَ ظُهُورِهِمْ وَاشْتَرَوْا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَبِئْسَ مَا يَشْتَرُونَ﴾ (آل عمران: 187).
وإن واجب المسلم أن يميز بين الصحيح والفاسد من الآراء بسؤال أهل العلم الثقات، وبسؤال قلبه النقي الذي يحفظ به دينه يوم أن يقف أمام ربه، وبحسه فرداً مسلماً يعلم أصول الدين والشريعة، خاصة تلك المسائل الواضحات، التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم في الصحيحين وغيرهما: «إن الحلال بين وإن الحرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعلمهن كثير من الناس، فمن اتقى الشبهات فقد استبرأ لدينه وعرضه ومن وقع في الشبهات وقع في الحرام».