التراث من أهم المفاهيم والقضايا التي انشغل بها الفكر النهضوي العربي في القرنين الماضيين، وما يزال الانشغال قائماً حتى الآن، خاصة العلاقة بين التراث ومشاريع النهضة، فلا تخلو نهضة إلا وكان سؤال التراث حاضراً فيها بقوة؛ لأن التراث أحد المحددات الرئيسة للهوية.
تنوعت المواقف من التراث في الفكر النهضوي العربي في القرنين الماضيين، ما بين اتجاه يُلقي التراث خلف ظهره، باعتباره من مخلفات الماضي التي يجب أن تُقبر، واتجاه آخر مُقدِّس للتراث يراه تجربة معصومة يجب أن تُستحضر في الحاضر والمستقبل، واتجاه ثالث سواء أكان تلفيقياً أو توفيقياً، بعضه يُدرك أهمية التراث في النهضة لكن يُخضعه لأدوات منهجية من غير بيئته الحضارية، أما الآخر فيطالب بإخضاعه لأدوات منهجية نبتت من نفس الحضارة.
جدالات التراث
التراث من المفاهيم المُختلف في تحديد ماهيتها، ولعل ذلك يرجع إلى أن القراءة الأيديولوجية والسياسية كانت المتحكمة-في الغالب- في النظر للتراث، فالبعض رآه ميراث الآباء والأجداد الذي ما زال فاعلاً فينا حتى اللحظة الراهنة، ورآه آخرون الذكرة الإنسانية لأي مجتمع بكافة تجلياتها في المجال الثقافي والمعرفي والمعاشي والأدبي والفني، أما النهضة فهي تعبير عن الطاقة والقوة والارتفاع والانبعاث من جديد.
وحسب د. طه عبدالرحمن، فالتراث هو روح الأمة وقلبها النابض، وهو روح لا حياة للفكر بدونه، وإلا وقع هذا الفكر في حالة من الاستلاب لتراث آخر، تتعلق فيه الأمة بتراث غيرها، وتأسيسياً على ذلك يصبح الانشغال بالتراث ليس سؤالاً ماضوياً أو ترفياً، ولكنه سؤال ضاغط على الواقع ومؤرق للمستقبل.
رأى عبدالرحمن ضرورة قراءة التراث بنظرة شمولية كلية تكاملية، فالتجزئة والتبعيض مُضِر بطريقة تعاملنا مع التراث، وطالب بأن يقرأ التراث بأدوات لها أصالتها في التراث وليس بأدوات منقولة عن حضارة وتراث آخر، حتى تؤتي القراءة نتائجها المرجوة، لأن التجزئة في قراءة التراث، واستدعاء أدوات ومناهج لقراءته لم تنبت من هذا التراث تقود في الغالب إلى احتقار هذا التراث، وإلغاء الاستفادة منه.
أما د. محمد عباد الجابري، فيؤكد أن جميع النهضات عبرت أيديولوجياً في بداية انطلاقها بالدعوة إلى الانتظام في التراث، لكن بعض تلك النهضات وقعت فيما أسماه «بئر الأيديولوجيا التي لا يطلع ماؤها رقراقاً من دون الأيديولوجيا»؛ أي أن الأيديولوجيا كانت كثيفة الحضور في تلك النهضات في بداية انطلاقها، وربما يمكن تفهم تلك الحالة، في أن التراث لعب كميكانيزم(1) دفاعي عن الهوية، ورأى الجابري أن قراءة التراث بالروح القديمة ونفس أدوات التراث يُعيق فعالية ذلك التراث، وفعالية إنتاجه وحضور في المشروع النهضوي، فلا بد من القطعية مع الفهم التراثي للتراث.
وحسب الجابري، فإننا لا نستطيع التقدم باستعارة النماذج واللغات والأزمنة التي تأست خارج تاريخنا، كذلك لا نستطيع أن نتطور تطوراً ذاتياً بالانخراط في تاريخنا الذاتي، ولذلك حاول طرح قراءة معاصرة للتراث على مستوى الإشكالات والمحتوى المعرفي، رغبة في أن تضفي تلك القراءة المعقولية على التراث.
وقد انتقد عبدالرحمن ما ذهب إليه الجابري، ورآه إقحاماً لآليات منقولة عند تحليل ونقد التراث، وضعت لموضوعات مغايرة للتراث، بما يُخرج التراث في صورة لا تحافظ على بنيته في تداخل أجزائها وتساند عناصرها.
أما د. حسن حنفي، فرأى أن البداية يجب أن تكون من التراث من أجل المحافظة على الاستمرار في الثقافة الوطنية، وتأصيل الحاضر، ودفعه نحو التقدم، والمشاركة في قضايا التغيير الاجتماعي، ومن ثم تصبح قضية التراث مسؤولية ثقافية وقومية، بشرط إعادة تفسير التراث طبقاً لحاجات العصر، وما يطرحه حنفي هو أن الحاضر هو من يطرح تساؤلاته على التراث، ويستدعي من التراث مساهمته لحل مشكلات الواقع.
التراث في النهضة الأوروبية واليابانية
تطرح التجربة النهضوية الأوروبية واليابانية صيغاً ناجحة للتعامل مع التراث، على مستوى تجديد الأسئلة المطروحة، أو تجديد صيغ ومناهج التعامل مع التراث.
وتؤكد التجربتان أن استلهام التراث ضرورة، ولكن لا بد من أن تكون أسئلة الحاضر حاضرة، لمعرفة كيفية الاستلهام، ففي النهضة الأوروبية ما بين القرن الـ14 والقرن الـ16 نشطت عملية إحياء التراث اليوناني والروماني في المعارف والفنون، وتلبست الكثير من المفكرين والفنانين حالة من النهم للاطلاع وإحياء الثقافة والفنون والآداب والفلسفة القديمة، فتم إعادة نشر الكثير من المخطوطات، والاهتمام بدراسة اللغة اليونانية وآدابها، وظهرت حركة تتخطى الثقافة المسيحية بعيداً إلى الرومان واليونان، فنشأت حركة الإنسانيين، التي اهتمت بدراسة كتب اليونانيين والرومان المهتمة بدراسة الإنسان، وكان من أشهر مفكري تلك المرحلة فرانشيسكو بتراركا (ت 1374م).
وهنا يجب ملاحظة أن رواد الاستلهام من التراث اليوناني الروماني في النهضة الأوروبية حققوا استفادة عظيمة من الجهود التي بذلها العلماء المسلمون في إحياء ذلك التراث، لكن هؤلاء النهضويين الأوروبيون أخذوا التراث اليوناني والروماني والإغريقي دون أن يـتأثروا بالإسلام، وهو ما يعني أنهم كانوا قادرين على تحديد ما يريدونه من التراث دون أن يستعيروا الأدوات المنهجية التي استعملتها الحضارة الإسلامية في إحياء ونقد التراث اليوناني والإغريقي.
أما النهضة اليابانية، فظهرت فيها تيارات متعارضة بين رافض التراث، ورافض التغريب، إضافة إلى الاتجاه التوافقي، وخلصت التجربة إلى أنه يمكن الاستفادة من التحديث الغربي والاقتباس من الحضارة الغربية، مع الاحتفاظ بالتراث الياباني، وبذلك فرقت النهضة اليابانية بين العلوم الغربية التقنية والعلمية وما بين آداب وثقافة وفنون الغرب، ورُفع حينها شعار «علوم غربية بروح يابانية»، وهناك مقولة لمفكر ياباني تلخص تلك الحالة، هي: «أن اليد التي طرقت الباب، لم تكن أقل أهمية من اليد التي فتحت الباب»؛ أي أن نجاح التحديث والنهضة اليابانية لم يكن ليتحقق إلا من خلال حضور التراث الياباني في عملية النهضة.
وحسب د. مسعود ضاهر، في كتابه عن «النهضة العربية والنهضة اليابانية»، فإن اليابانيين انطلقوا من الركائز الإيجابية في التراث الياباني، فلم يُحدثوا قطيعة مع تراثهم، واختاروا من القيم والنظم الغربية ما يتلاءم مع مكونات المجتمع الياباني وتراثه، فلم يتم تهميش اللغة أو احتقار التقاليد اليابانية، أو نبذ الثقافة اليابانية، ولكن تم توظيف الجيد من التراث وتضفيره ليكون عنصر تقوية للهوية وانطلاقاً للنهضة.
وفي الحالة العربية إبان القرنين الماضيين، فإن البعض أبدى موقفاً معادياً للاستلهام من التراث الإسلامي، وطالب بالاستلهام من التراث البعيد، ومن أمثلة ذلك سلامة موسى الذي أصدر كتاباً عام 1935م بعنوان «مصر أصل الحضارة» خلط فيه بين التراث والعصبية، ناسجاً التقدم والنهوض بعوامل بيولوجية مستمرة في الشخصية المصرية، ورغم ذلك كان شديد الرفض للتراث الإسلامي والعربي، بل دعا لضرب التراث في مقتل، حيث دعا في كتابه «البلاغة العصرية واللغة العربية» إلى العامية، تحت دعوى التوحيد بين لغة الكلام ولغة الكتابة.
ويبدو أن اتصال البعض المنادين بالقطيعة مع التراث، لم يحققوا تواصلاً عميقاً مع التراث العربي الإسلامي ومناهجه، لأن التعمق هو ما يثير التساؤلات والإشكالات ويطرح الأسئلة، أضف إلى ذلك أن البعض له أزمة نفسية مع التراث إذا كان إسلامياً أو عربياً، لكن تزول تلك الأزمة مع أي تراث آخر.
______________________
(1) الميكانيزم: حيل دفاعية أو حيل عقلية ونفسية يستخدمها الإنسان كوسيلة دفاعية لتجنب الألم والتحرر من الصراعات النفسية الداخلية والخارجية، وهي ذات غرض وقائي وآخر دفاعي.