يتميز الاقتصاد الإسلامي عن غيره من النظريات الاقتصادية الوضعية بالعديد من الخصائص التي تصب في مصالح الفرد والمجتمع على السواء، وأهم هذه الخصائص:
أولاً: ربانية المصدر:
عانت البشرية طويلاً في كافة أنحاء الأرض نتيجة تطبيقها نظريات اقتصادية وضعية تتبع أهواء واضعيها ومصالحهم الشخصية وميولهم الاجتماعية دون النظر لمصلحة فردية أو مجتمعية، بل كان الدافع الأول لها مصلحة مجموعة دون أخرى تبعاً للدافع الشخصي ومكانة من وضعها، ودفعت البشرية ثمناً غالياً من سعادتها واستقرارها، وساد الظلم المجتمعي؛ مما دفع الشعوب لثورات دموية للتخلص من تلك الرأسمالية تارة والشيوعية تارة أخرى، وما تفكك الاتحاد السوفييتي الشيوعي عنا ببعيد.
ولذلك فقد تميز الاقتصاد الإسلامي بخصائص لم تحظ بها قوانين أخرى، وهو أنه ينتمي في أصله لمصدر تشريعي لا تعتريه الأهواء أو الشهوات؛ وهو القرآن الكريم المحفوظ إلى يوم القيامة؛ (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) (الحجر: 9)، والقرآن الكريم فصل فيما لا يتغير تبعاً للمكان والزمان كالميراث مثلاً، وأجمل في غيره كنظام الحكم.
وجاءت السُّنة المطهرة لتبين القرآن الكريم؛ (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ) (النحل: 44)، ومن تمام حفظ القرآن الكريم حفظ السُّنة المطهرة، ما دامت المبينة الشارحة، وقد حفظت السُّنة بما لم يحفظ به أي علم في تاريخ البشر.
وبعد السُّنة يأتي الإجماع، ثم الاجتهاد، والقياس، وغيره من المصادر والاجتهاد التي اتفق عليها فقهاء الأمة، فالمجتهد يحاول أن يصل إلى الحكم الشرعي في ضوء الوحي، وليس بالهوى والتشهي، والأخطاء تأتي عامة بدون قصد؛ لأنه لا اجتهاد مع وجود نص، والمجتهد لا يترك الوحي ويتبع الأدلة الشرعية وليس التحليل أو التحريم من عند نفسه.
ثانياً: ربانية الهدف:
الاقتصاد الإسلامي يهدف إلي سد حاجات الفرد والمجتمع الدنيوية، طبقاً لشرع الله تعالى الذي استخلف الإنسان في التصرف في المال والانتفاع به، فالمسلم يدرك أن المال ملك لله عز وجل، فيكون إرضاء المالك سبحانه وتعالى هدفاً يسعى إليه المسلم في نشاطه الاقتصادي؛ (وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا) (القصص: 77)، (إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً) (الإنسان: 9)، ولذلك نجد المسلم وهو يزاول نشاطه الاقتصادي يسلك مسلكه وهو يعبد الله عز وجل، بل الهدف من نشاطه أساساً هو عبادة الله تبارك وتعالى.
ثالثاً: الرقابة المزدوجة:
عندما يضع أي نظام بشري مبادئه وقوانينه، فإن التطبيق يحتاج إلى جهاز رقابة، ويستطيع الناس مخالفة هذا النظام ما داموا بعيدين عن أعين الرقباء، أما في الإسلام فإن النشاط الاقتصادي يخضع لرقابتين؛ رقابة بشرية، ورقابة ذاتية، والرقابة البشرية وجدناها بعد الهجرة، فالرسول صلى الله عليه وسلم كان يراقب الأسواق بنفسه، وعندما فتحت مكة أرسل من يراقب أسواقها، ومن هنا ظهرت وظيفة المحتسب لمراقبة النشاط الاقتصادي إلى جانب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وإحساس المسلم أن الله عز وجل أحل كذا وحرم كذا، يفرض رقابة ذاتية، ولذلك رأينا سلوك المسلم في نشاطه الاقتصادي كسلوكه في عبادته، وعندما سئل الرسول صلى الله عليه وسلم عن الإحسان قال: «أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك» (حديث صحيح).
رابعاً: الجمع بين الثبات والمرونة:
في الاقتصاد الإسلامي أمور ثابتة، لا تتغير ولا تتبدل مهما تغير الزمان والمكان، منها تحريم الربا والميسر وحل البيع وكثير من العقود والنصاب والمقدار في الزكاة وتوزيع التركة على الورثة، فليس لأحد أن يحل ما حرم، أو يحرم ما أحل، أو يغير في أحكام الزكاة والميراث، ومنها حد السرقة، فليس لأحد أن يستبدل به عقوبة أخرى، والإسلام جاء خاتماً للأديان ليطبق في كل زمان ومكان، فكان في اقتصاده من المرونة ما جعله يتسع للأساليب المختلفة، والوسائل المتجددة، والعرف ما دام لا يتعارض مع أصل ثابت.
ومن المعروف في العبادات الحظر، وفي المعاملات الإباحة، فكل عبادة ممنوعة ما لم يوجد ما يدل على مشروعيتها، وكل معاملة مباحة ما لم يثبت ما يمنعها، لذا اتسع الاقتصاد الإسلامي ليشمل ما يجد من المعاملات المختلفة التي خلت من الربا والميسر والغرر الفاحش، ورأينا تغير الفتوى تبعاً لتغير الزمان والمكان، يقال: هذا اختلاف زمان ومكان وليس اختلاف حجة وبرهان.
خامساً: التوازن بين المادية والروحية:
الإنسان مادة وروح، وخالقه عز وجل يعلم ما يصلح لكل منهما وما لا يصلح؛ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ) (الملك: 14)، فجاء الاقتصاد الإسلامي بالتوازن بين الجانبين بحيث لا يطغى أحدهما على الآخر، ولهذا وجدنا الربط بين التنمية الاقتصادية والتنمية الإيمانية؛ (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُواْ وَاتَّقَواْ لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ) (الأعراف: 96)، وجعل الجهاد في سبيل الله مع الضرب في الأرض؛ (وَآخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِن فَضْلِ اللَّهِ وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) (المزمل: 20)، بل جعل النشاط الاقتصادي سعياً في سبيل الله، كما جاء في الحديث الشريف: «إن كان خرج يسعى على أبوين شيخين كبيرين فهو في سبيل الله، وإن كان خرج يسعى على نفسه يعفها فهو في سبيل الله، وإن كان يسعى رياء ومفاخرة فهو في سبيل الشيطان» (رواه الطبراني).
والإسلام منع التفرغ للعبادة، وقد جمع عموماً بين العبادة والعمل، وأوجب العمل، وجعل المسلم وهو يعمل يتجه إلى الله عز وجل مخلصاً؛ (فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (الجمعة: 10).
سادساً: التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة الجماعة:
للإنسان دوافعه ورغباته وما يراه محققاً لمصلحته الخاصة، وقد تتعارض مصلحة الفرد مع مصلحة المجتمع، فراعى الاقتصاد الإسلامي التوازن التام بين المصلحتين، ومن المعلوم أن ما يملكه الفرد لا يجوز غصبه أو الاعتداء عليه، كما قال في خطبته صلى الله عليه وسلم: «إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا» (رواه مسلم)، وللمالك حق الانتفاع المشروع بما لا يتعارض مع مصلحة الجماعة، وليس له حق استخدام ما يملك بطريقة تسبب الضرر للآخرين، أو الجماعة وليس له كذلك تعطيل الانتفاع تعطيلاً يضر بمصلحة الجماعة، ولذلك استعاد عمر جزءاً من الأرض التي أخذها بلال بن رباح من الرسول صلى الله عليه وسلم؛ لأنه لم يستغلها كاملة، وعطّل الانتفاع بهذا الجزء، وقال عمر أيضاً: «ليس لمحتكر حق بعد ثلاث سنين».
سابعاً: الواقعية:
الاقتصاد الإسلامي واقعي في مبادئه ومنهجه وأحكامه، ينظر إلى الواقع العملي الذي يتفق مع طبائع الناس، ويراعي دوافعهم وحاجاتهم ومشكلاتهم، لا يجنح إلى خيال وأوهام، ولا ينزل إلى درك لا يتفق مع البشرية التي كرمها ربنا سبحانه، يقول تعالى: (نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُم مَّعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضاً سُخْرِيّاً وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ) (الزخرف: 32)، فهذا هو واقع الناس، اختلافهم في الرزق والجاه، ليتخذ بعضهم من بعض أعواناً يسخرون في قضاء حوائجهم، حتى يتساندوا في طلب العيش وتنعيم الحياة، وختام الآية الكريمة له أثره في أن يتم هذا في تراحم وتعاون محمود، وشتان بين هذا وصراع الطبقات التي تحدثت عنه الماركسية.
ثامناً: العالمية:
من الخمس التي خص بها خاتم الرسل محمد صلى الله عليه وسلم أنه بعث للناس كافة: (إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِّلْعَالَمِينَ) (ص: 87)، ولهذا جاء الإسلام صالحاً للتطبيق في كل زمان ومكان، الاقتصاد جزء من هذا الدين الخاتم، ولهذا جاء بأحكام كلية، ومبادئ عامة تناسب كل مكان وزمان، وجمع بين الثبات والمرونة والتطور، واتسع لاجتهادات المجتهدين، وجعل الأصل في المعاملات الإباحة ما لم يوجد ما يعارض نصاً، أو أصلاً ثابتاً أو مقصداً من مقاصد التشريع الإسلامي.
لذلك، فللاقتصاد في الإسلام صلاحية تجعله هو السبيل الوحيد لضمان مصالح الجميع الفرد والمجتمع، والضمانة الوحيدة لسعادة الإنسان الاقتصادي دون الجور على حق غيره من البشر.