اكتسبت عمليات المقاطعة في اليمن أهمية خاصة نظرًا للضغوط الكبيرة التي يعاني منها هذا الشعب تحت نير حرب أهلية طاحنة واقتصاد مهترئ، دمرت تلك الحرب بنيته الأساسية، إضافة إلى معاناته من انقسامات داخلية تركت آثارها على الشمال والجنوب والوسط.
وفي ظل كل هذه التحديات نجح اليمنيون في خلق أجواء ناجحة من الإرادة الوطنية تشارك الأمة العربية والإسلامية فيها في مساندة الشعب الفلسطيني ضد الدول التي تعتدي عليه، واستغلال هذه الفرصة الوطنية في مواجهة الغزو الاقتصادي الذي لا يسمح بنمو المنتج المحلي الوطني طالما بقي مهيمنًا على الأسواق.
ويمكن وصف المقاطعة في اليمن بأن هذا الشعب نجح في المواجهة، وخلق بدائل بقدر إمكاناتهم تصلح أن تكون نموذجًا لتجسيد انتصار الإرادة على الحرب والفقر والرأسمالية والاستهلاكية والعلامات التجارية الغربية والأمريكية.
تفاعل شعبي كبير
وعلى الرغم من أن اليمن يعاني من تراجع اقتصادي حاد واعتماد كبير على الاستيراد لتلبية احتياجاته، حيث يستورد اليمن معظم احتياجاته تقريبًا من الخارج، حتى بلغ حجم استيراده من السلع الغذائية نحو 15 مليار دولار سنويًا، كما يعتمد القطاع الخاص التجاري في اليمن على الأسواق الخارجية لتوفير 96.5% من احتياجات السوق المحلية، فإنه ظل رمزًا للصمود في مقاطعته لمنتجات الدول الداعمة للكيان المحتل في تجسيد بطولي لدعم أشقائه في غزة.
ونجح اليمنيون في الوصول إلى قوائم مدققة من تلك البضائع والمواد الغذائية التي تعود إلى شركات تنتمي إلى دول داعمة لـ«إسرائيل»، وتم تداول هذه القوائم بشكل موسع بين جميع فئات المجتمع اليمني، وكان لافتًا انتشار مصطلحات: «هذا النوع يقتل فلسطينياً»، في كل المتاجر اليمنية، حيث تطوع عدد من الشباب بالوقوف أمام المتاجر الكبرى لإرشاد الناس بتحريضهم على عدم شراء تلك المنتجات.
وأظهرت المحافظات الخاضعة لسيطرة جماعة «أنصار الله» (الحوثيين) خطوات ملموسة في هذا الصدد، حيث قامت جهات الاختصاص بمنع دخول منتجات الشركات والعلامات التجارية الأمريكية والأجنبية الداعمة لـ«إسرائيل»، وشطبها من الأسواق، وتحريم الترويج لها.
وقد واكب هذا التحرك اليمني حملات توعوية مكثفة على مختلف المنصات، تضمنت نشر قوائم بأسماء وصور المنتجات المُقاطَعة، مع شرح بدائلها المتوفرة في السوق، كما سلطت هذه الحملات الضوء على دور الإنتاج المحلي في سدّ احتياجات المستهلك اليمني وتعزيز الاكتفاء الذاتي.
وعلى أرض الواقع، زينت شوارع صنعاء بملصقات توضح المنتجات المطلوب مقاطعتها وبدائلها، كما شهدت محافظات أخرى خاضعة للحكومة الشرعية تحركات مماثلة.
ولقي هذا المسعى تفاعلًا واسعًا على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث شارك الكثيرون تفاصيله ونشروها دعماً للقضية الفلسطينية، كما أظهر المواطنون التزامًا كبيرًا بدعوات المقاطعة، مؤكدين عزمهم على المضي قدمًا حتى تحقيق النتائج المرجوة.
بدائل محلية
ويبدو أن الشعب اليمني يصر على المضي قدمًا في تسييد ثقافة مقاطعة منتجات الدول المعادية لمصالحنا العربية التي فوق مساندتها للعدوان «الإسرائيلي» تصر على الهيمنة على السوق اليمنية، وطرد المنتجات المحلية عبر إغراق السوق بتلك المنتجات مرتفعة الثمن التي يغلب عليها النمط الاستهلاكي الترفيهي وتصاحبها عمليات دعائية مكثفة لخلق ثقافة عامة تساند المنتج الأجنبي.
وخلال فترة وجيزة، نجح اليمنيون في خلق عدد من البدائل للمنتجات الغربية يمكن الإشارة إليها في التالي:
– مشروبات غازية وطنية: ظهرت في الأسواق اليمنية خلال الفترة الأخيرة العديد من المشروبات الغازية المحلية التي لاقت إقبالًا كبيرًا من المستهلكين، وجميعها حلت بديلًا محليًا للمشروبات الغازية المستوردة خاصة تلك المشمولة بالمقاطعة، وهو ما أعاد الانتعاش الاقتصادي للشركات المنتجة من ناحية وسمح لها بتوظيف عدد من الشباب اليمني من ناحية أخرى.
مياه شرب «معدنية» يمنية: اتجه أبناء اليمن إلى شراء مياه الشرب المحلية «المعدنية» التي انتشرت في الأسواق اليمنية كبديل للمنتجات المستوردة المشمولة بالمقاطعة.
– مصانع تعليب الأسماك: وفي ظل المقاطعة زاد اهتمام اليمن بصناعة تعليب الأسماك، وانتشرت في الأسواق اليمنية أنواع التونة المحلية.
– رقائق البطاطس المحلية: وفي مواجهة الشركات العالمية التي أغرقت السوق اليمنية برقائق البطاطس سابقة التجهيز، أوسع اليمنيون في استهلاك المنتجات اليمنية المحلية من رقائق البطاطس كبدائل للمنتجات المستوردة.
– الآيس كريم المنزلي: في محاولة ناجحة لصناعة وترويج منتج شعبي من الآيس كريم في مواجهة الشركات العالمية نجحت الأسر اليمنية في إنتاج أصناف محلية من الآيس كريم، حيث قامت المرأة اليمنية بتطوير نكهات متنوعة مثل «الآيس كريم أبو روتي»، الذي يجمع بين الحليب المثلج والروتي، وهو منتج أصبح شهيرًا بين الأسر في اليمن، ويُعرف في جنوب البلاد بـ«آيس كريم التواهي».
مواجهة الغزو الاقتصادي
بالرغم من ضعف الاقتصاد اليمني وباعتباره اقتصاد حرب، نجح الشعب اليمني معتمدًا على إرادته وعزيمته الكبيرة في مواجهة الشركات الكبرى خاصة تلك التي تنتمي إلى دول داعمة للعدوان «الإسرائيلي» في خلق بدائل تبدو وفقًا للمعايير الاقتصادية العالمية متواضعة، ولكنها شكلت حالة وجدانية من الإصرار على دعم الشعب الفلسطيني في مواجهة الهيمنة الغربية من ناحية، والإصرار على بناء اقتصاد مستقل من ناحية أخرى.
وفي العموم، يميل اليمنيون بطبيعة الحال إلى المنتجات الوطنية في سلوكهم الاستهلاكي، حتى في غربتهم، حيث يحملون معهم منتجات يمنية خاصة لإعداد أكلاتهم ومشروباتهم المميزة خلال أيام السفر.
ونُشير هنا إلى أن رواج المنتجات المحلية الصنع قد عاد بقوة إلى السوق المحلية في الآونة الأخيرة، بعد أن بدأت الأسر اليمنية تتجه نحو سلوك استهلاكي أكثر وعيًا ودعمًا للمنتجات الوطنية.
كما أبدع الشعب اليمني طرقاً جديدة لتشجيع المقاطعة عبر تنظيم معارض تسويقية في المدن والأحياء والقرى للمنتجات المحلية، ومنتجات الدول العربية البديلة لمنتجات الدول المشمولة بالمقاطعة.
وتشهد تلك المعارض إقبالًا شعبيًا يعكس الإرادة اليمنية في مساندة القضية الفلسطينية من ناحية، ومواجهة الغزو الاقتصادي من ناحية أخرى.
وفي الإطار ذاته، يدرس التجار اليمنيون فتح خطوط إنتاج جديدة للمنتجات اليمنية خاصة بعد الإقبال المتزايد من جماهير الشعب اليمني على تلك المنتجات، وهو ما يشكل بداية حقيقية لصناعة اقتصاد وطني قادر على الصمود في مواجهة الغزو الاقتصادي الذي يبتلع كل مدخرات اليمنيين.
يشهد اليمن تحولًا ملحوظًا في سلوكيات المستهلك، حيث يزداد منسوب القناعة لدى اليمنيين بإمكانية مقاطعة المنتجات الخارجية التي اعتادوا عليها، فما كان يُنظر إليه سابقًا على أنه من الصعب الاستغناء عنه، أصبح اليوم هدفًا للمقاطع، التي بدأت تشكل الأسواق المحلية في اليمن من جديد عبر تغيير أنماط الاستهلاك وعدم انتظار وجود بدائل.
وهكذا يبدو أن اليمن يقدم بصموده نموذجًا ملهمًا للبلدان العربية الأخرى في كيفية دعم القضايا العادلة في ظل تدهور الظروف الاقتصادية.
___________________
باحث متخصص في الشأن اليمني