أورد المقريزي في كتاب «إمتاع الأسماع» أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس في يوم عرفة، في العام العاشر للهجرة النبوية، على ناقته ببطن الوادي، وقال: «إن دماءكم وأموالكم حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا، أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ، وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ. اتَّقُوا اللَّهَ فِي النِّسَاءِ، فَإِنَّكُمْ أَخَذْتُمُوهُنَّ بِأَمَانِة اللَّهِ، وَاسْتَحْلَلْتُمْ فُرُوجَهُنَّ بِكَلِمَةِ اللَّهِ، وَلَكُمْ عَلَيْهِنَّ أَنْ لَا يُوطِئْنَ فُرُشَكُمْ أَحَدًا تَكْرَهُونَهُ، فَإِنْ فَعَلْنَ ذَلِكَ فَاضْرِبُوهُنَّ ضَرْبًا غَيْرَ مُبَرِّحٍ، وَلَهُنَّ عليكم رزقهن وكسوتهن بالمعروف. وَقَدْ تَرَكْتُ فِيكُمْ مَا لَنْ تَضِلُّوا بَعْدَهُ إِنِ اعْتَصَمْتُمْ بِهِ، كِتَابُ اللَّهِ، وَأَنْتُمْ تُسْأَلُونَ عَنِّي فَمَا أَنْتُمْ قَائِلُونَ؟»، قَالُوا: نَشْهَدُ أَنَّكَ قَدْ بَلَّغْتَ وَأَدَّيْتَ وَنَصَحْتَ، فَقَالَ بِإِصْبَعِهِ السَّبَّابَةِ، يَرْفَعُهَا إِلَى السَّمَاءِ وَيَنْكُتُهَا إِلَى النَّاسِ: «اللَّهُمَّ! اشْهَدِ اللَّهُمَّ! اشْهَدْ» ثَلَاثَ مَرَّاتٍ(1).
إن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين خطب هذه الخطبة في حجة الوداع ليؤكد للناس في وصية جامعة وبيان ختامي تعاليم الإسلام ومقاصده، فبدأ بترقيق القلوب ولفت الأنظار، حيث أكدت بعض الروايات أنه نادى قائلاً: «أيها الناس، اسمعوا مني فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا»(2)؛ فاستشعر الناس أنها وصية الختام؛ فاجتمعوا واستمعوا للنبي صلى الله عليه وسلم، وهو يؤكد قواعد البناء وسبل الحماية لمقاصد الشريعة الإسلامية، فما أحوجنا في هذه الأيام إلى التربية على المقاصد الضرورية للشريعة الإسلامية، وهي حفظ الدين والنفس والمال والنسل والعقل، وذلك من خلال خطبة حجة الوداع.
المقصد الأول: حفظ الدين:
تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: «إنِّي قد ترَكْتُ فيكم ما إنِ اعتصمتُمْ بِهِ فلن تضلُّوا أبدًا كتابَ اللَّهِ وسُنَّةَ نبيِّهِ»(3)، فمن تمسك بكتاب الله وسُنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد حفظ دينه وسلم من الضلال.
كما أكد صلى الله عليه وسلم حفظ الدين من وساوس الشيطان، فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إنَّ الشيطانَ قد يَئِسَ أن يُعبَدَ بأرضِكم، ولكن رضِيَ أن يُطاعَ فيما سِوى ذلك مما تحقِرون من أعمالِكم، فاحْذَروا»(4).
المقصد الثاني: حفظ النفس:
تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين أكد حرمة الدماء، فقال: «إن دماءكم وأموالكم حَرَامٌ عَلَيْكُمْ، كَحُرْمَةِ يَوْمِكُمْ هَذَا، فِي شَهْرِكُمْ هَذَا، فِي بَلَدِكُمْ هَذَا»، وقال أيضاً: «لَا تَرْجِعُوا بَعْدِي كُفَّارًا يَضْرِبُ بَعْضُكُمْ رِقَابَ بَعْضٍ»(5)، كما منع النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع ما كان سائداً من الثأر وشيوع الاقتتال بين الناس، فقال: «أَلَا كُلُّ شَيْءٍ مِنْ أَمْرِ الْجَاهِلِيَّةِ تَحْتَ قَدَمَيَّ مَوْضُوعٌ، وَدِمَاءُ الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعَةٌ، وَإِنَّ أَوَّلَ دَمٍ أَضَعُ مِنْ دِمَائِنَا دَمُ ابْنِ رَبِيعَةَ بْنِ الْحَارِثِ، كَانَ مُسْتَرْضِعًا فِي بَنِي سَعْدٍ فَقَتَلَتْهُ هُذَيْلٌ».
وكان الناس يطالبون بهذه الدماء التي سفكت في الجاهلية، فأبطل النبي صلى الله عليه وسلم هذا الأمر وبدأ بعائلته في ذلك حقناً للدماء وحفظاً للنفوس.
المقصد الثالث: حفظ المال:
أكده النبي صلى الله عليه وسلم حين أمر بأداء الأمانات إلى أهلها، فقال: «وَمَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ أَمَانَةٌ فَلْيُؤَدِّهَا إِلَى مَنْ ائْتَمَنَهُ عَلَيْهَا»(6)، كما أكد تحريم الربا وحذر الناس منه، فقال: «وَرِبَا الْجَاهِلِيَّةِ مَوْضُوعٌ، وَأَوَّلُ رِبًا أَضَعُ رِبَانَا، رِبَا عَبَّاسِ بْنِ عَبْدِالْمُطَّلِبِ، فَإِنَّهُ مَوْضُوعٌ كُلُّهُ»، ثم فصّل النبي صلى الله عليه وسلم في موضوع الأموال لأنها تغير النفوس، فقال «إِنَّهُ لَا يَحِلُّ مَالُ امْرِئٍ إِلَّا بِطِيبِ نَفْسٍ مِنْهُ»(7)، كما حذر صلى الله عليه وسلم في خطبة حجة الوداع من أكل الميراث وأخذ الحقوق المالية للغير، فإن هذا مما يوغر الصدور ويؤدي إلى النزاع والصراع، وقد نهى النبي صلى اللّه عليه وسلم عن ذلك بقوله: «إِنَّ اللَّهَ قَسَمَ لِكُلِّ وَارِثٍ نَصِيبَهُ مِنَ الْمِيرَاثِ، فَلَا تَجُوزُ لِوَارِثٍ وَصِيَّةٌ»(8).
المقصد الرابع: حفظ النسل والعرض:
جاء واضحاً في خطبة حجة الوداع حين تحدث النبي صلى الله عليه وسلم عن الوصية بالنساء وبيان الحقوق والواجبات بين الزوجين من أجل حفظ النسل والعرض، حيث قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أيها الناس، إن لنسائكم عليكم حقًّا، ولكم عليهن حقٌّ؛ ألا يُوطِئنَ فُرُشَكم غيرَكم، ولا يُدخِلنَ أحدًا تكرهونه بيوتكم إلا بإذنكم، ولا يأتِينَ بفاحشةٍ، فإذا فعلنَ ذلك، فإنَّ الله أذِنَ لكم أن تَهجروهُنَّ في المضاجع، وتَضربوهُنَّ ضربًا غير مُبَرِّحٍ، فإن انتهينَ وأطعنكم، فعليكم رزقهُنَّ وكِسوتهُنَّ بالمعروف، وإنما النساء عوانٍ عندكم (يَعني: أسيرات) لا يَملكنَ لأنفسهِنَّ شيئًا، أخذتموهُنَّ بأمانة الله، واستحللتم فروجَهنَّ بكلمة الله، فاتقوا الله في النساء واستوصوا بهنَّ خيرًا».
المقصد الخامس: حفظ العقل:
تحدث عنه النبي صلى الله عليه وسلم حين أكد حماية العقل المسلم من أن يظن أنه أفضل من الناس، وأنه متميز عنهم ويتفاخر بذلك، وقد حذر الرسول صلى الله عليه وسلم من ذلك، فعن جابر بن عبد الله قال: خطَبنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في أوْسَطِ أيَّامِ التشْرِيقِ خُطْبَةَ الوَداعِ فقال: «يا أيُّها النَّاسُ، إنَّ ربَّكُمْ واحِدٌ، وإنَّ أباكُمْ واحِدٌ، ألا لا فَضْلَ لِعَربيٍّ على عجميٍّ، ولا لِعَجَمِيٍّ على عَربيٍّ، ولا لأَحْمرَ على أسْوَدَ، ولا لأَسْودَ على أحْمرَ؛ إلا بِالتقْوى، (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ)، ألا هَلْ بلَّغْت؟»(9).
كما أكد النبي صلى الله عليه وسلم حفظ العقل من اتباع الهوى المخالف لما شرع الله، وذلك حيث إن بعض القبائل العربية كانوا يقاتلون في الأشهر الحرم، وكانوا يقدمون الأشهر ويبدلونها وفق أهوائهم تفادياً لاتهامهم بمخالفة الشهر الحرام، ولهذا نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك في خطبة الوداع، فعَنْ أَبِي بَكَرَةَ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَطَبَ فِي حَجَّتِهِ، فَقَالَ: «أَلَا إِنَّ الزَّمَانَ قَدْ اسْتَدَارَ كَهَيْئَتِهِ يَوْمَ خَلَقَ اللهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ، السَّنَةُ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا، مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ، ثَلَاثٌ مُتَوَالِيَاتٌ: ذُو الْقَعْدَةِ، وَذُو الْحِجَّةِ، وَالْمُحَرَّمُ، وَرَجَبُ مُضَرَ الَّذِي بَيْنَ جُمَادَى وَشَعْبَانَ»(10)، فقد ثبَّت مواعيد الأشهر الحرم حتى لا يتلاعب بها البعض وفق الهوى والغرض، وفي هذا دعوة إلى حفظ العقل من الهوى.
وفي نهاية كل فقرة من فقرات الخطبة ينادي الرسول صلى الله عليه وسلم على الناس قائلاً: «هل بلغت»؛ فيقولون: نعم، فيقول: «اللهم اشهد فليبلغ الشاهد منكم الغائب»؛ وفي هذا تأكيد على أهمية البلاغ عن رسول الله، والدعوة إلى مبادئ الإسلام التي إن غابت فإن المجتمع تنتشر فيه الجريمة سواء كانت جرائم قتل أو سرقة أو تعد على الأعراض.
______________________
(1) انظر: إمتاع الأسماع للمقريزي (2/ 112)، وانظر: صحيح مسلم (1218).
(2) إمتاع الأسماع للمقريزي (2/ 112).
(3) صحيح الترغيب والترهيب (40).
(4) مسند أحمد (8810).
(5) المرجع السابق (2036).
(6) المرجع السابق (20695).
(7) المرجع السابق (20695).
(8) سنن ابن ماجه (2712).
(9) صحيح الترغيب والترهيب (2964).
(10) مسند أحمد (20386).