(مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء وَزُلْزِلُواْ) (البقرة: 214)، كرامةُ ثباتٍ في وجه الزلزال، عرفناها ورأيناها في أهل غزة، سلام على الصابرين المرابطين؛ (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (آل عمران: 200)، «رِباطُ يَومٍ وليلةٍ في سَبيلِ اللهِ كصِيامِ شَهرٍ وقِيامِه، إنْ ماتَ جَرى عليه أجْرُ المُرابِطِ حتى يُبعَثَ، ويُؤمَنُ الفتَّان»، «عَينانِ لا تمَسَّهما النَّارُ: عينٌ بكت من خشيةِ اللهِ، وعينٌ باتت تحرسُ في سبيل اللهِ»، يحرسون في سبيل الله ويرابطون ويجاهدون، إذن متى ينامون؟!
سلام على المرابطين، سلام على مواكب الشهداء، أحياء يمشون ثم شهداء يُرزَقون، مواكب بشرية تحمل الجنائز مكبرين ومهللين ثم لم يلبثوا حتى غدوا كوكبة من الشهداء يُشيَّعون بالتكبير وكأن تكبيراتهم تبعتهم إلى قبورهم فهي تكبيرات إخوانهم لهم من بعدهم؛ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ أَمْوَاتاً بَلْ أَحْيَاء عِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ {169} فَرِحِينَ بِمَا آتَاهُمُ اللّهُ مِن فَضْلِهِ وَيَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُواْ بِهِم مِّنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ) (آل عمران).
ولا تظنن، أيها النبي، أن الذين قُتلوا في الجهاد في سبيل الله أموات، بل هم أحياء حياة خاصة عند ربهم في دار كرامته، يرزقون من أنواع النعيم الذي لا يعلمه إلا الله تعالى، قد غمرتهم السعادة، وشملتهم الفرحة، بما مَنَّ الله عليهم من فضله، ويأملون وينتظرون أن يلحق بهم إخوانهم الذين بقوا في الدنيا، أنهم إن قتلوا في الجهاد فسينالون من الفضل مثلهم، ولا خوف عليهم فيما يستقبلونه من أمر الآخرة، ولا هم يحزنون على ما فاتهم من حظوظ الدنيا(1).
سلام على أهل خندق غزة؛ جوعٌ وخوفٌ وظلام وجهاد ورباط؛ (إِذْ جَاؤُوكُم مِّن فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنكُمْ وَإِذْ زَاغَتْ الْأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا {10} هُنَالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَزُلْزِلُوا زِلْزَالاً شَدِيداً) (الأحزاب)، إنهم أهل الخندق، بل غزة تحولت إلى خنادقَ قوةٍ وعزةٍ تَشم منها بارود المدافع والبنادق،
أهل خندق غزة يتحدون المنافقين والمخذلين والمرجفين والمثبطين؛ (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ مَّا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب: 12)، (إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـؤُلاء دِينُهُمْ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ فَإِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (الأنفال: 49).
سلام على أهل الثقة وأهل الثبات والتثبيت رغم البلاء؛ (يُثَبِّتُ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ وَيُضِلُّ اللّهُ الظَّالِمِينَ وَيَفْعَلُ اللّهُ مَا يَشَاءُ) (إبراهيم: 27)؛ يُثبِّتُ الله المؤمنين بكلمة التوحيد الثابتة إيماناً تاماً في الحياة الدنيا حتى يموتوا وهم على الإيمان، وفي البرزخ في قبورهم عند السؤال، ويثبتهم يوم القيامة، ويضل الله الظالمين بالشرك بالله والكفر به عن الصواب والرشد، ويفعل الله ما يشاء من إضلال من أراد إضلاله بعدله، ومن هداية من شاء بفضله، فلا مُكْرِه له سبحانه(2).
الكفوف بالكفوف.. فاشهدوا عهودنا
الثبات في الصفوف.. والمَضاء والفَنا
المِئونَ والألوف.. فديةٌ لديننا
وعلى شفا السيوف.. نستردّ مجدنا
بالكتاب شِرعةً.. والرسول قُدوةً
واليقين عُدّةً(3)
سلام على أهل القرآن حين يُتلى من أهل غزة رغم الحطام والخراب والأشلاء والشهداء، رغم دوي صافرات الإسعاف وصراخ أهل المصابين والمسعفين واستغاثات الجرحى والمكلومين والمعذَّبين، رغم كل ذلك تجلسون تتلون كتاب الله مع من تبقّى من أهليكم وجيرانكم، ولسان حالكم:
بُنيَّ إذا ما رمت عزاً ورفعة فإن كتاب الله يُعلي ويرفع
يُسوّد فيه الأتقياء كأنهم نجوم لهم شأن عظيم وموقع
كتاب به عزَّ الوجود وأشرقت على الكون شمسٌ للعدالة تسطع(4)
سلام على التفاؤل الذي تعيشونه يا أهل غزة.
أنا لا أزال أشد قوسَ عقيدتي وأهُزُّ رغمَ المرجفين لوائي
وأُقلِّم الأشجار عند يَباسِها وأرُجُّ غَيْمي كي تَزُخَّ سمائي(5)
لله دركم أهل القدس أصبحتم مدرسةً في العزم والهمة والاعتصام بكتاب الله!
كتابُ الله أطلقهم فطاروا وطارت نحوهم عين وحور
دماؤهم على الساحات مسك ويمضي للعبير بك العبير
فنبت القدس ليس له نظير وحاشا أن يكون له نظير
بماء الذكر يُسقى كل فجر وفي أحشائه تنمو البذور(6)
سلام عليكم أهل القدس، لقد تألق الإسلام في أرضكم من جديد، لقد أينعت رياضه وابتسمت زهوره وأصبحت أرضه مُخضرَّة؛ فقويَ إيمانُ الناس، وصلُب عودُهم، ونضج فكرُهم، وعرفوا طريقَهم، وفهموا أن آلامهم هي الطريق نحو آمالهم؛ فكان لهذا البلاء نتاج وزرع؛ (كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً) (الفتح: 29).
دماء الشهداء شلالات نور، تسطع في الليل الضرير، وللشهيد ابتسامة في وجه الردى يتحدى الدنيا يبتغي لأمته المجد والسؤدد؛ (سَلَامٌ قَوْلاً مِن رَّبٍّ رَّحِيمٍ) (يس: 58).
اللهم اشملنا وأهل غزة والمسلمين أجمعين بهذا القول المبارك يوم نلقاك وأنت خير الراحمين.
اللهم انصر المجاهدين والمرابطين في فلسطين وفي كل مكان يا قويُّ ويا عزيز.
اللهم ارحم شهداءنا واخلفهم في أهليهم وذويهم وذرياتهم!
اللهم عجِّل لهم البشرى بجنات ونهر في مقعد صدق عند مليك مقتدر.
والحمد لله رب العالمين.
___________________________
(1) المختصر في تفسير القرآن الكريم، جماعة من علماء التفسير.
(2) المرجع السابق.
(3) كتاب أناشيد أبي مازن، المنشد أبو مازن، المكتبة الشاملة.
(4) إنما أنت بلسم، محمود مفلح.
(5) المرجع السابق.
(6) المرجع السابق.