النادر بين البشر أن يكون هناك مضربون عن الزواج، راغبون عنه، محبذون للوحدة، راضون بالعزوبة، صابرون على لأوائها.
لكن الأصل أنَّ من وصل إلى مرحلة البلوغ فإنه يبحث عن شريك له في الحياة، وهو في أثناء هذا البحث يضع بين يديه ونصب عينه مواصفات لمن يرغب في مشاركتها حياته، وعلى ضوء هذه الشروط والمواصفات يختار تلك الشريكة.
والناس تختلف شروطهم ومواصفاتهم اختلافًا بينًا، لكنها -في العموم- لا تخرج عن شروط أربعة ذكرها النبي ﷺ؛ فقال: «تُنْكَحُ الْمَرْأَةُ لأَرْبَعٍ: لِمَالِهَا، وَلِحَسَبِهَا، وَجَمَالِهَا، وَلِدِينِهَا، فَاظْفَرْ بِذَاتِ الدِّينِ تَرِبَتْ يَدَاكَ»(1)، وفي رواية أخرى رواها أبو سعيد الخدري قال: قال رسول الله ﷺ: «تُنكح المرأة على إحدى خصال ثلاثة: تُنكح المرأة على مالها، وتُنكح المرأة على جمالها، وتُنكح المرأة على دينها، فخذ ذات الدين والخُلق تربت يمينك»(2).
فمن عادة الناس الرغبة في النساء، واختيارهن لإحدى أربع خصال، وهذه الخصال الأربع هي الْمُرغِّبة في نكاح المرأة، وهي التي يقصدها الرِّجال من النساء.
والصحيح في معنى هذا الحديث أن النبي ﷺ أخبر بما يفعله الناس في العادة؛ فهو خبرٌ عمَّا في الوجود من ذلك، لا أنه أمرٌ بذلك، وظاهره إباحة النكاح لقصد مجموع هذه الخصال أو لواحدة منها، لكن اللائق بذوي المروءات وأرباب الديانات والسالكين المسترشدين أن يكون الدين مطمح نظرهم فيما يأتون ويذرون، لا سيما فيما يدوم أمره، ويعظم خطره؛ لذا فإن قصد الدِّين أولى وأهم؛ ولذلك اختاره رسول الله ﷺ، وحرض عليه بآكد وجه وأبلغه، فأمر بالظفر الذي هو غاية البغية، ومنتهى الاختيار، والطلب الدال على تضمن المطلوب لنعمة عظيمة، وفائدة جليلة فقال: «فاظفر بذات الدِّين»(3).
ولا حرج على الرجل أن يبحث مع الدين عن الجمال؛ فالنبي ﷺ تزوج أمهات مؤمنين قد أعجبه حسنهن؛ مثل: أمنا جويرية بنت الحارث، وأمنا صفية بنت حيي بن أخطب.
ومن طريف الأقوال عن الجمال ما قاله الماوردي: إن كان العقد رغبة في الجمال فذلك أدوم ألفة من المال؛ لأن الجمال صفة لازمة والمال صفة زائلة، فإن سلم الحال من الإدلال المفضي للملل دامت الألفة واستحكمت الوصلة، وقد كرهوا شدة الجمال البارع؛ لما يحدث عنه من شدة الإدلال المؤدي إلى قبضة الإذلال(4).
وهناك من يبحث عن الجمال فقط غير مهتم بأمر الدين، فلا ضير عنده أن تتكشف امرأته وتكون سافرة متبرجة، والأدهى من ذلك من انتكست فطرته فيستغل جمال زوجته لقضاء بعض مصالحه؛ فيعرضها على بعض ذوي النفوذ والسلطان والجاه والمال لينال عندهم حظوة أو فرصة أو منصبًا أو صفقة.. إلخ، وهذا فعل تأنف الحيوانات من مقارفته، لكن بعض البشر يقارفونه!
ولا حرج على الرجل أن يبحث مع الدين عن المال؛ فقوله ﷺ: «تنكح المرأة لمالها»؛ دليل على أن للزوج الاستمتاع بمال الزوجة والارتفاق بمتاعها وأنه يقصد لذلك، ولولا ذلك لم يفدنا قوله: «تنكح المرأة لمالها» فائدة، ولتساوت الغنية والفقيرة في قلة الرغبة فيها، فإن طابت به المرأة نفسًا فهو له حلال، وإن منعته فإنما له من ذلك بقدر ما بذل من الصداق(5).
لكن إن «كان عقد النكاح لأجل المال، وكان أقوى الدواعي إليه فالمال إذن هو المنكوح، فإن اقترن بذلك أحد الأسباب الباعثة على الائتلاف جاز أن يثبت العقد وتدوم الألفة، وإن تجرد عن غيره فأخلق بالعقد أن ينحل وبالألفة أن تزول، سيما إذا غلب الطمع وقل الوفاء»(6).
وقوامة الرجل مبنية على الإنفاق والرعاية والحماية للزوجة، لكنها إن كانت صاحبة مال لعلها «لا تُلزم زوجها بما لا يطيق، ولا تكلفه في الإنفاق وغيره»(7).
لكن هناك من ينظر لمال زوجته على أنه غنيمة له، ولا يقوم بما يجب عليه من واجب الإنفاق، حتى وصل الأمر بالبعض أن يبحث عن امرأة عاملة لتنفق عليه وعلى أولاده من غيرها، إلى جانب خدمتها لهم، ومنعها من الإنجاب منه.
أو يبحث البعض عن امرأة عاملة ويرى لنفسه حقًّا في مالها حتى قبل البناء بها، ويحسب مدخولها ويطالبها به؛ لشراء رفاهيات -كالسيارة مثلاً- هم أبعد ما يكونون عنها، وليته طالب بالمال للمعاونة في تجهيز البيت وتأثيثه، لكنه أغرب وأبعد النجعة، فلم يُعط المهر بعد ويطالب بمالها، وإن أعطاها المهر فقد قال أبو حنيفة، والثوري، والشافعي: «لا تجبر على شراء ما لا تريد، والمهر لها تفعل فيه ما شاءت»(8).
ولا حرج على الرجل أن يبحث مع الدين عن الحسب، طالبًا شرف النسب، وتشرف المرأة «بالآباء والأقارب مأخوذ من الحساب؛ لأنهم كانوا إذا تفاخروا عدوا مناقبهم ومآثر آبائهم وحسبوها، فيحكم لمن زاد عدده على غيره»(9)، أما الحسب فهو «الفعل الجميل للرجل وآبائه»(10).
لكن هناك من يطلب بالحسب والنسب الرفيع أن يرفع خسيسته، أو لينال بوجاهة أهلها منصبًا، فإن انقلبت الأحوال بأهلها جفاها، وتعنَّت معها، وسقاها كؤوس الإذلال والإهانة.
وبذلك نرى أن طلب المرأة والرغبة فيها دائمًا له وجهان؛ وجه مقبول، ووجه مذموم، ويأتي الذم في الاستغلال الذي يخرج بالزواج عن وجهه الصحيح.
وقد لاحظت أن أغلب الاستغلال وأشيعه ما يكون في المال، وأقله وأحصره ما يكون في الجمال، والمستغل خاسر في كل الأحوال، وإن ظن بعض الفائدة والربح.
ونسوق في الختام هذا الحديث الذي يضبط الوجهة ويقدم ما يستحق التقديم؛ فعَنْ عَبْدِاللَّهِ بْنِ عَمْرٍو قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: «لاَ تَزَوَّجُوا النِّسَاءَ لِحُسْنِهِنَّ فَعَسَى حُسْنُهُنَّ أَنْ يُرْدِيَهُنَّ، وَلاَ تَزَوَّجُوهُنَّ لأَمْوَالِهِنَّ فَعَسَى أَمْوَالُهُنَّ أَنْ تُطْغِيَهُنَّ، وَلَكِنْ تَزَوَّجُوهُنَّ عَلَى الدِّينِ، وَلأَمَةٌ خَرْمَاءُ سَوْدَاءُ ذَاتُ دِينٍ أَفْضَلُ»(11).
_________________________
(1) أخرجه البخاري في النكاح، باب: الأَكْفَاءِ فِي الدِّينِ، ح(5090) من حديث أبي هريرة.
(2) أخرجه أحمد في المسند، ح(11765)، وقال شعيب الأرنؤوط: صحيح لغيره، وهذا سند حسن.
(3) انظر: شرح النووي على مسلم، (10/ 51-52)، والمفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم لأبي العباس القرطبي، (4/215)، وتحفة الأبرار شرح مصابيح السنة للبيضاوي، (2/ 330).
(4) فيض القدير للمناوي (3/270).
(5) شرح البخاري لابن بطال، (7/ 186-187).
(6) فيض القدير للمناوي (3/ 270-271).
(7) عمدة القاري شرح صحيح البخاري للعيني (20/ 86).
(8) المرجع السابق، نفس الجزء والصفحة.
(9) فيض القدير للمناوي (3/ 271).
(10) شرح النووي على مسلم (10/ 52).
(11) أخرجه ابن ماجه في النكاح، باب: تَزْوِيجِ ذَوَاتِ الدِّينِ، ح(1887)، وقال الألباني في ضعيف سنن ابن ماجه: ضعيف جدًّا.