إذا كنت ممن حملته الظروف على الاغتراب، فلا بد أنك قد تلقيت العديد من الاتصالات التي يشكو فيها أصدقاؤك وأقاربك من صعوبة الحياة في الوطن، ويطلبون منك أن تبحث لهم عن فرصة مماثلة، فأنت من وجهة نظرهم تعيش في نعيم مترف ولا تعرف تلك المنغصات والآلام، ربما لن يجدي نفعاً أن تشرح لهم حجم التحديات والمشقة التي تواجهها، فهي أمور لن يعرفها إلا من عايشها.
ولكن لك أن تتخيل أن نفس هذا الموقف قد تكرر حرفياً مع المسلمين الذين هاجروا إلى الحبشة، للدرجة التي أغضبت السيدة أسماء بنت عميس، زوجة الصحابي الجليل جعفر بن أبي طالب، فقالت موجهة كلامها لسيدنا عمر بن الخطاب: «كنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، وكنا نؤذى ونخاف..»، وهو جزء من حوار طويل سنذكره لاحقاً لنفهم حجم المعاناة والمشقة التي واجهها المسلمون في الحبشة، ونتعلم كيف تعامل المهاجرون معها.
أول التحديات التي واجهها المسلمون في الحبشة -التي تواجه كل من يعيش في المهجر- شعور الاغتراب والإحساس بالوحدة، فكل شيء يختلف تماماً عما اعتاده المسلمون في وطنهم؛ اختلاف اللغة والثقافة والدين كانت أبرز العوائق التي واجهتهم، ولكن ما زاد من صعوبة الوضع شعورهم بعدم الأمان، وتعرضهم للأذى في بعض الأحيان، وهو ما ظهر جلياً ضمن ثنايا الحوار الأول للمسلمين مع النجاشي حين سألهم: أيؤذيكم أحد؟ قالوا: نعم، فأمر منادياً فنادى: من آذى أحداً من هؤلاء فأغرموه أربعة دراهم، قال: يكفيكم؟ فقلنا: لا، فضاعفها.
ويمكن أن يستشف من عودة المهاجرين إلى مكة بعد فترة قصيرة من الهجرة الأولى عدم ارتياحهم بالحبشة، وربما ساعد على ذلك وصول نبأ إسلام حمزة، وعمر، رضي الله عنهما، وعلى الرغم من تأكدهم من كذب الخبر الذي وصلهم بأن قريشاً دخلت في الإسلام، فإنهم فضلوا العودة وتحمل الأذى بديلاً عن الاستمرار في معاناتهم بالمهجر، وقد تردد في وسطهم مقولة: «عشائرنا أحبّ إلينا»، وهو ما يوضح كيف أن مشاعر الغربة كانت قاسية عليهم بدرجة لا تحتمل.
التحدي الأصعب في تجربة الغربة يتمثل في كيفية الحفاظ على القيم والتمسك بالعقيدة والدين، لا سيما إن كانت غالبية السكان في بلد المهجر تعتنق ديانة مختلفة، فكان جعفر بن أبي طالب يعقد جلسات مع المسلمين لتعليمهم أمور دينهم، وهي الرواية التي يحكيها عمرو بن العاص بنفسه: لما رأيت جعفراً آمناً بالحبشة هو وأصحابه حسدته، فأتيت النجاشي فقلت: إن بأرضك رجلاً ابن عمه بأرضنا يزعم أنه ليس للناس إلا إله واحد.. قال: اذهب إليه فادعه، قلت: إنه لا يجيء معي، فأرسل معي رسولاً، فأتيناه وهو بين ظهري أصحابه يُحدثهم.
وفي ذلك رسالة مهمة لكل من يبدأ حياته في الغربة؛ ابحث عن رفقة طيبة تعينك على أمر دينك ودنياك، واحرص على أن تصنع لأولادك البيئة الصالحة، فحجم التحديات والفتن أكبر مما نتصور جميعاً، وبالذات مع الانفتاح الكبير في وسائل التواصل.
وما دمنا نتحدث عن وسائل التواصل التي ساهمت حالياً في تقريب المسافات وتذليل الصعاب، فلنا أن نتخيل وضع المسلمين في الحبشة حيث كانوا على بعد آلاف الأميال، وفي انقطاع كامل عن أخبار وطنهم، لدرجة أنه لم تصل إليهم التشريعات التي نزلت على النبي صلى الله عليه وسلم بعد هجرتهم، وعلى رأسها الصيام والصلاة.
وفيهم كتب شيخ الإسلام ابن تيمية، وهو يقرر العذر بالجهل: «ولما زيد في صلاة الحضر حين هاجر الرسول عليه الصلاة والسلام إلى المدينة، كان من كان بعيداً عنه مثل من كان بأرض الحبشة يُصلون ركعتين، ولم يأمرهم النبي عليه الصلاة والسلام بإعادة الصلاة، ثم لما فرض شهر رمضان في السنة الثانية من الهجرة، ولم يبلغ الخبر إلى من كان بأرض الحبشة من المسلمين حتى فات ذلك الشهر لم يأمرهم بإعادة الصيام».
لن يشعر بمرارة الغربة إلا من عايشها واكتوى بنارها، أما من سمع عنها ولم يعش تلك التجربة فسيظل تصوره عن الغربة أنها مجرد رحلة ممتعة تمر مرور الكرام، ويتجلى ذلك في تفاصيل الحوار بين عمر بن الخطاب مع السيدة أسماء بنت عميس بعد عودتها من الحبشة، حين قال لها: سبقناكم بالهجرة فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم، فغضبت وقالت: كلا والله، كنتم مع النبي صلى الله عليه وسلم يطعم جائعكم ويعظ جاهلكم، وكنا في أرض البعداء البغضاء بالحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، ونحن كنا نؤذى ونخاف، وسأذكر ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم وأسأله، والله لا أكذب ولا أزيغ ولا أزيد عليه، فلما جاء النبي صلى الله عليه وسلم روت له ما حدث، فقال صلى الله عليه وسلم: «هو ليس بأحق بي منكم، وله ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم أهل السفينة هجرتان».
لا تبتئس أخي المغترب فستظل تتلقى الاتصالات من أصدقائك وأقاربك للبحث عن فرصة معك، فهي سُنَّة الحياة التي لا تتبدل، ولكن كلما واجهت المزيد من الآلام والتحديات تذكَّر دوماً هجرة الحبشة وفضل أصحابها، تذكَّر كيف واجهها المسلمون وتعايشوا معها لمدة تزيد على 15 عاماً، كيف حافظوا على دينهم وعقيدتهم وصنعوا بيئة مناسبة لذلك، بل وأحدثوا تأثيراً في المجتمع، وهو النموذج الذي يجب أن تضعه دوماً نصب عينيك.